عمان الثقافي

أن تكون مسلما في أمريكا في عصر الرقابة الرقمية

25 يونيو 2023
25 يونيو 2023

يحلو لي أن أكتب في أولى ساعات الصباح، قبل أن تشرق الشمس، حينما يغمر الهدوء البيت والشوارع، وأشعر كأنني قد أكون الوحيدة المستيقظة في نطاق أميال. يمتعني الإحساس بأنني في غاية الوحدة. لكن في بعض الأحيان، إذ تحوم أصابعي فوق لوحة المفاتيح، موشكة أن تنقر كلمات في محرك بحثي، أن يغمرني الإحساس بأنني تحت أعين تراقبني. ولأنني أكتب كثيرا عن المسلمين في ما بعد 11 سبتمبر، فبالطبع أشعر بالتوتر.

أسوأ فترة لي هي التي احتجت فيها إلى البحث عن عَلَم (الدولة الإسلامية) من أجل مشهد كنت أكتبه في روايتي. قلت في نفسي، لا بأس في هذا، ومضيت أقرِّب صورة لتلك الخربشات المرسومة بالأبيض والأسود رسما أوليا. إن هو إلا علم. ثم وجدت أنني بحاجة إلى مشاهدة نماذج لفيديوهات قيام داعش بالتجنيد. كيف سأفسر بحثي عن هذا؟ هكذا فكرت بينما تمر بشاشتي صور رجال ملتحين يطلقون المدافع الرشاشة. هل سيفهمون أنني محض كاتبة روايات، معلّمة لا أكثر في مدرسة ثانوية، أمّ، نكرة؟

كنت أغادر صفحة الفيديو فور أن أشاهده، وأسارع بمحو تاريخي البحثي. وأضحك من نفسي بعد ذلك. لكن في بعض الأحيان، في ذلك البيت الهادئ الساكن في الرابعة صباحا، كنت أتخيل حذاء عسكريا يركل بابي، وكيسا يوضع على رأسي، وشاحنة تنتظر على العتبة مفتوحة الأبواب.

كان العقدان المنصرمان منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر هما نفسهما عقدا صعود وسائل الإعلام الاجتماعي والتكنولوجيا الذكية، فقد ظهر فيسبوك في عام 2003، أي العام نفسه الذي غزت فيه الولايات المتحدة العراق. أتذكر عودتي من المدرسة وأنا طالبة في الصف الثاني بالمدرسة الثانوية لأتنقل بين قنوات التلفزيون ومشاهدتي لصور بالأبيض والأخضر لقنابل تنفجر فوق بغداد. تناولت وجبة العصر الخفيفة في ذلك اليوم بينما بشر لهم ملامح مثل ملامحي، وصلاة مثل صلاتي، وأسماء مثل اسمي، يتعرضون للقتل وهم نيام.

حصلت على هاتفي الذكي الأول سنة 2009 هدية تخرجي الجامعي. اصطحبته معي في الطريق إلى وظيفتي الأولى بعد الجامعة في (اتحاد العرب الأمريكيين بنيويورك)، وهي هيئة خدمات اجتماعية تدعم المهاجرين. ربما كانت تلك هي ذروة اختراق شرطة نيويورك لأوساط العرب المسلمين والمنحدرين من جنوب آسيا، وعهد القلق العظيم الذي بلغ حد البارانويا لدى مسلمي نيويورك، فلم يكن لدينا بعدُ أي دليل على ما كنا نستشعره كل يوم، وهو أننا خاضعون للمراقبة، والتسجيل، وأن سلطات تنفيذ القانون تحفر لنا بصورة غير قانونية.

بلغت الرشد إذن في الوقت الذي تلاقت فيه تانك القوتان الهائلتان اللتان شكَّلتا المجتمع الأمريكي. ثمة شيء ملموس اسمه ما قبل سنوات مراهقتي وما بعدها - ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وما بعده. ما قبل وسائل الإعلام الاجتماعي وما بعدها. شكَّلت تلك الثنائيات شخصيتي الراشدة التي أمتلكها اليوم بلا إمكانية للانفصال عنها. قاومت اللحاق بركب وسائل الإعلام الاجتماعي بقدر ما استطعت لكنني في النهاية استسلمت للضغط أو الغواية. وبدا تكويني لحسابي في فيسبوك أشبه بإذعان، بلحظة استسلام، بعجز عن المقاومة.

كان هذا الإحساس وسط أصدقائي المسلمين إحساسا طبيعيا. كلنا شعرنا بأننا مراقَبون، فكان دأبنا أن نطلق النكات حول هذا. كان يحدث أن يظهر امرؤ، جديد علينا، ويكون بادي اللهفة، عند مسجد الحرم الجامعي، فنرفع جميعا حواجبنا ناظرين إلى بعضنا بعضا. وفيما مضت هواتفنا المحمولة المطوية تفسح أماكنها تدريجيا للهواتف الذكية، بدأنا في تعديل نكاتنا تلك لمصلحة الشخص الذي لعله يتنصت مهما يكن.

فيقول أحدنا «أقسم أنني قد أقتله فورا»، ثم تقع عينه على الهاتف القابع على الطاولة في ما بيننا فيقول موضِّحا في قلق «وهذا محض مزاح».

بعد أن انفردت وكالة أنباء أسوشييتد بريس بخبر في 2012 مفاده أن شرطة نيويورك كانت تتجسس فعلا علينا، صار الأصدقاء والزملاء في اتحاد العرب الأمريكيين بنيويورك يمزحون بشأن المرشد الذي كان ينقل تفاصيل عملنا اليومي التافهة من قبيل عدد المقاعد في البهو، وملصق المسجد الأقصى المقدسي المعلق على الجدار. «أنت الجاسوس! لا، إنما أنت الجاسوس».

على مدار السنين، تكوَّنت لدي ردود أفعال مختلفة تجاه الإحساس بأنني مراقبة. في البداية، كنت أتصرف وكأنني العلم الأمريكي الصغير الذي ثبّته أبي في حديقة بيتنا بعد الحادي عشر من سبتمبر، فكنت أجعل من نفسي دليلا حيا على أن المسلمين أمريكيون أيضا. كنت أتحول إلى النوع «الصحيح» من المسلمين، أي المعتدل، المعتذر.

ذلك تقريبا هو الوقت الذي تظاهرت فيه لوهلة أنني أحب الموسيقى الريفية بقدر حب زملائي في مدرسة فرجينيا الثانوية لها. ولكن العلم الصغير أكلته الشمس وبقية المسلمين يتعرضون للطرد من الطائرات، والترحيل، والاعتقال. ثم حدث في 2012، بعد أشهر قليلة من نشر أسوشييتد بريس خبر برنامج التجسس، أن سافرت أنا وأبي معًا إلى مصر.

كانت رحلتنا من نيوارك على الخطوط الجوية التركية. وكانت تلك هي الرحلة الافتتاحية لشركة الطيران من نيوارك فأقاموا ما يشبه حفلة صغيرة عند البوابة، فيها موسيقى وطعام من تركيا بل وفيها درويش يرقص بالتنورة في ركن. كان الجو جوا مرحا واحتفالا وانحرافا مرغوبا عن القلق المعتاد الذي كنت أستشعره في المطارات. اصطففت وأبي في رتل الصعود إلى الطائرة، والتذكرتان في أيدينا، وإذا برجل يرتدي تيشيريت وبنطال جينز يظهر فجأة ويأمرنا بالتنحي عن الصف.

لوَّح بشارة في وجهينا، لكني ارتبكت حتى أنني لا أتذكر صفته التي قدَّم بها نفسه. إدارة أمن النقل؟ أمن الوطن؟ كان يتكلم بلكنة نيوجيرزية فاقعة، وله وجنتان محمرّتان، وبدأ بطرح أسئلة علينا عن سبب سفرنا إلى مصر وكمِّ النقد الذي بحوزتنا. تقدم الرتل دوننا. لم يُبدِ أبي أيَّ تعاون. طرح المسؤول -أيا ما كانت جهة عمله- على أبي سؤالا عن محل ميلاده. فأشار أبي إلى جواز السفر الأمريكي بين يدي المسؤول وقال «جواز سفري معك، اقرأه».

ظل المسؤول يطرح الأسئلة عن النقود، ورفض أبي مواصلة الرد عليه. قال في هدوء محاولا الرجوع إلى الرتل «سأجيب عن هذه الأسئلة في الجمارك عندما أرجع مثل الآخرين». غضب المسؤول غضبا شديدا. وبدأ يصرخ ويهدد بأن يعطلنا عن الرحلة تماما. وعند ذاك توجَّه إليَّ وقال «يستحسن أن تسيطري على والدك وإلا سيكون هذا وضعا في منتهى السوء بالنسبة له».

والمؤسف أني فعلت ذلك. جعلت وجنتي أبي بين يدي وتوسلت إليه أن يستسلم، ويتعاون، ويسمح بإذلاله على الملأ. قال أبي «لا تخافي منه. أنا أعرف حقوقي».

لأن أبي كان ولم يزل مؤمنا بالديمقراطية الأمريكية، وأنه لا مساس بحقوقه بوصفه مواطنا. كان يعتقد أن حقوقه هذه سوف تحافظ له على أمنه. أما أنا فلم يكن لدي إيمان أبي بأن جواز السفر الأزرق قادر على توفير أي حماية له. تراءى لي وهو يؤخذ بعيدا عن البوابة، ولم تزل الطائرة تطن خارج النافذة. وإذ ذاك كان لدي من الدراية ما يكفي لأفهم أن هذه هي اللحظات التي تجري فيها صناعة «الإرهابيين».

كنت أعلم أن مسلمين من أمثال أبي يتعرضون للاعتقال إلى ما لا نهاية، بناء على اشتباهات واهية ودائمة التغير ولا أسس لها. فتوسلت إلى أبي أن يطأطئ. وبدا أن هذا فيه شفاء لنرجسية المسؤول الجريحة. كان يرغب في إذلالنا، فمضيت أرجوه وأعتذر له وأتوسل. وفي النهاية، تركنا نمضي دون مزيد من التفسيرات.

تأخر الإقلاع بسببنا، أتذكر وقع نظرات جميع الركاب الآخرين علينا ونحن نسير في الممر إلى مقعدينا. كنا شبه إرهابيين، نسافر معهم في رحلة جوية عابرة للأطلنطي. لبثت وأبي صامتين لأغلب الرحلة، ولم نتكلم عن الواقعة تقريبا منذ وقوعها.

لم أعد أحاول إثبات طيبتي أو اعتدالي. فأنا الآن غاضبة وضجرة. لأنني أدركت أن الأمر لا علاقة له بما نفعله حقا أو بما لا نفعله. فنحن خاضعون للمراقبة في كل الحالات. لذلك قررت أن أكتب رواية عن المراقبة وحينما كنت أجري أبحاثي عن «الوحدة الديمجرافية» في شرطة نيويورك، وذلك هو الاسم الملطف لبرنامج التجسس على المسلمين، كنت ألتهم، بمتعة غريبة، وثائق تفصل سبل الجهات القانونية في تعقبنا. وفيما كنت أمشط التقارير التافهة، والمذكرات المليئة عادة بالأخطاء الطباعية، كنت أشعر بمسوغ لكل لحظة رعب وبارانويا خلال السنوات العشر الماضية.

حدث ذات مرة خلال إقامة للفنانين في ركن وديع من ريف نيوهامشر أن طبعت كل تقارير شرطة نيويورك التي تمكنت وكالة أسوشييتد بريس من نشرها، فهي عشرات الصفحات من الخرائط والحوارات مع المخبرين و«المتسللين إلى المساجد»، وقواعد بيانات الشركات المملوكة للعرب أو المسلمين في نطاق مائة كيلومتر من مدينة نيويورك. فرشتها أمامي على أرض كوخي وبدأت في التعليق عليها. فحتى أكثر التفصيلات براءة - من قبيل نوعية المناشير المثبتة على لوحات الإعلانات، والقنوات التلفزيونية المفتوحة في متاجر الطعام - كانت مشبعة بالخطر.

كان الخطر، وفقًا لهذه التقارير، كامنا في كل مكان. كنا -أي العرب والمسلمين- إرهابيين كامنين، كلنا. كان لا بد من مراقبتنا عن كثب، لأن فينا عنفا يمكن في أي لحظة أن ينضج. وفيما كنت أستلقي على بطني فوق الأرض، زاحفة مثل مجنونة على خريطة، سمعت حفيفا على باب كوخي. تجمّدت. ثم سمعت إطارات تدهس حصى الممر. فلم يكن ذلك إلا التوصيل اليومي للغداء في سلة تنزه من الخيزران.

بعد ذلك انتقلت إلى إقامة أخرى للفنانين، وكانت تلك في مكان أنأى، بلا شبكة تغطية للهواتف أو شبكة إنترنت. شيء بديع. كنت غير قابلة للتعقب. غالبا ما أرجع بأفكاري إلى ذلك الأسبوع الذي كنت فيه خارج التغطية لأتساءل لماذا لا أنزع قابس التكنولوجيا بوتيرة أكبر؟

في بعض الأحيان أستجمع قواي وأنصرف عن وسائل الإعلام الاجتماعي. بل إنني تركته تمامًا لسنوات قليلة، ثم جاء الوباء والحظر، ووجدت نفسي وقد ملأني إحساس بالاشمئزاز من نفسي، ففتحت حسابا على إنستجرام في وقت متأخر من ليلة في أبريل 2020. أردت أن أرى الناس وما اقتنوه من حيوانات أو من أنجبوا من أطفال في الوباء، أردت أن أرى الناس. ثم لم يمض وقت طويل، إلا وأنا ألقي خطبا نفاقية عن ملفات التعريف ومتعقبي المواقع، قاطعة العهود بأن أقلع عن الإنترنت وأن أغرق هاتفي.

ولم أزل حبيسة تلك الدائرة. أنظر بريبة إلى المحاسبين المراهقين في المتاجر حينما يطلبون معلومات شخصية من قبيل رقم هاتفي أو عنوان بريدي الإلكتروني عند المغادرة. يصفني زوجي بـ«النسخة المسلمة من رون سوانسون» نسبة إلى شخصية ليبرتاريٍّ محبوب في مسلسل «حدائق ومنتجع»، إذ يبذل سوانسون أقصى ما في طاقته ليبقى خارج الشبكة مخفيًا أدق تفاصيل حياته حتى عن أقرب أصدقائه. وحينما تكتشف ليزلي نوب، بعد سنين من التلصص، تاريخ ميلاده إذ يملأ استمارة الحصول على آيس كريم مجاني من باسكن روبنز، يتسبب له هذا في دوامة من البارانويا والذعر والتساؤل: أي معلومات أخرى تخصه وهي طافية الآن في كل مكان؟

في الفترة الأخيرة تلقينا رسالة من المدينة التي نعيش فيها تنبئنا بأن مثمِّني العقارات سيمرون قريبا بالحي وقد يتجولون في ممتلكاتنا، أو يستأذنون في دخول منازلنا. لوحت بالرسالة أمام زوجي ذات ليلة بعد أن أدخلنا أبناءنا إلى أسرَّتهم سائلة إياه: «هل رأيت هذا؟ هل يبدو لك حقيقيا أصلا؟ يريدون أن يدخلوا بيتنا؟».

لست بالغرة فأدخل السلطات بيتي. حينما كنت أعمل في اتحاد العرب الأمريكيين بنيويورك، كنت أوزع منشورات باللغة العربية لتوعية الناس بحقوقهم إذا ما طرقت الشرطة أو المباحث الفيدرالية أبوابهم. عليَّ أن أقول للمثمن «ارجع ومعك تصريح مكتوب» وأصفق الباب في وجهه.

وفي النهاية، عندما جاء المثمن لم يطلب أصلا أن يدخل. أدار مقوده في مدخلنا وذهب. لم يدم اللقاء إلا ستين ثانية. وهذا جيد، لأنني بالطبع لست النسخة المسلمة من رون سوانسون. رون سوانسون رجل أبيض مستقيم يأكل اللحم الأحمر ومن مواليد أمريكا. ولو طرد المثمن من بيته، لكان بذلك ممارسا لحقوقه الإلهية المستحقة له بوصفه أمريكيا. أما أنا بوصفي امرأة مسلمة، وابنة مهاجرين، فسأكون بمثابة من تعلن أنها العدو، من تعترف أخيرا بما ظل هذا البلد دائما يعرفه عني منذ أن كنت في الرابعة عشرة من العمر (بل وقبل ذلك).

أنا الآن كاتبة أحاول أن أنتهي من روايتي الأولى وأن أصل إلى الجمهور. والناس يفعلون هذا، في أيامنا هذه، من خلال وسائل الإعلام الاجتماعي. لذلك عندي صفحة كاتب في إنستجرام (إذ أنني أغلقت حساباتي الشخصية منذ فترة). قد يكون بوسعكم أن تجدوني هناك. بل ويمكنكم أن تروني بين الحين والآخر. وثمة شيء من الإثارة في الظفر بـ«متابع» جديد، شخص قرأ كتابي أو يريد أن يقرأه. يا له من حلم! لكن يجب أن تعلموا أيضا أنني، في كل مرة أضغط فيها زر «النشر»، لا أزال أشعر وكأنني أضع الطعم في الشرك، ولكن لنفسي.

___________________________________

• صدرت أخيرا رواية عائشة عبدالجواد الأولى بعنوان «بين قمرين» عن دار دابلداي. نشرت من قبل في مجلات ذي كينيون رفيو، وأمريكان شورت فيكشن وذي مسلم وورلد البحثية في عدد خاص عن الكاتبات المسلمات الأنجلوفونيات. فازت بجائز بوشكارت عن قصتها القصيرة «إيقاظ لونا». بعد تخرجها في الكلية، عملت في اتحاد العرب الأمريكيين بنيويورك وهو مركز معني بالخدمات الاجتماعية لمجتمع المهاجرين في باي ريدج ببروكلين. هي حاليا معلمة للغة الإنجليزية في مدرسة ثانوية بكونكتيكت.

عائشة عبدالجواد روائية أمريكية من أصول مصرية.

نشر المقال في موقع ليت هب في يونيو 2023