No Image
عمان الثقافي

أتلانتس بحر العرب في زوّادة المترحل: قراءة في «تدوينات من الرحلة إلى جزيرة مصيرة»

23 نوفمبر 2022
23 نوفمبر 2022

يذهب الكاتب العماني أحمد بن ناصر في رحلته وترحاله إلى الأمكنة التي اختارها بدقة ومحبة وعفوية، رحلة تمتد من أعماق الكاتب إلى امتداد الخارج. كاتب اختار الرحلة ليكتشف عبرها ومن خلالها مكامن الجمال والدهشة، كاتب جعل الترحال عتبته الأولى إلى مشارف الكتابة، وإلى ظلال الذات، ولسبر أغوار الآخر، ذهب إلى رحلة الكتابة من خلال رحلة الحياة والأمكنة. مزج بين الرحلتين (الكتابية/ المكانية)، فكان الترحال المحرض الأول للكتابة، وكانت الكتابة رفيقة المرتحل، والحذاء الذي يقوده إلى مكامن الجمال.

وبعد كتابه الأول «قواعد الرحلة الأربعون» الصادر عن دار نثر العمانية 2020، الذي وضع فيه الكاتب خلاصة تجربته في الترحال إلى أصقاع الأرض خلال 13 سنة، ومن قرأ أو يقرأ هذه القواعد الترحلية، يجد عمق التأمل، ودهشة المعنى في كل قاعدة وضعها الكاتب، وهو لا يُنظّر، ولا يجعل نفسه أستاذا لكل مرتحل، وإنما يضع لنا في هذا الكتاب خلاصته الذاتية، وتأملات شخصية لرحلاته. فالقواعد ثابتة جامدة، أما الرحلة فمتجددة ومتغيرة. ولابد لكل رحلة من طريق وخطط، فوضع في كتابه الأول الخطوط العامة، وانطلق في كتابه الثاني ليجرب صحة خلاصته وتجاربه.

في القاعدة الثانية من كتابه «القواعد الأربعون للرحلة» يكتب الكاتب:

«إذا خرجت في رحلة أيها الإنسان

فاعلم أن الرحلة قبل كل شيء

هي رحلة في الوجدان والشعور والنفس والعقل

لذلك، ابدأ رحلتك هذه قبل الرحلة الفعلية

اسرح بخيالك إلى وجهتك المقصودة

تخيل سيناريوهات مختلفة لرحلتك

واختر السيناريو الذي يعجبك أكثر

بهذه الطريقة ستكون قد قمت برحلتين

ما بين الرحلتين

رحلات

ورحلات.» ص13

بعدما وضع الكاتب قواعده وأسسه وتصوراته لفكرة الرحلة، بدأ في الانطلاق في جهات الأرض، ليختبر قواعده وصحتها وثباتها وتحولها، وليوسّع نظرته في الرحلة، فاختار أن تكون جزيرة مصيرة، هي التي سيحط عليها، ويرتحل إليها أكثر من مرة، برا وبحرا وجوا، وحيدا، أو مع رفاقه. ليلا ونهارا، شتاء وصيفا، كل هذه التنويعات لكي يتوغل في الجزيرة، ليس للكتابة عنها فقط، بل هي رحلة اكتشاف ودهشة وتماهي مع روح الأمكنة وظلالها، وخلق حوار جمالي معها. بقدر ما يعكسه جمال الأمكنة في روح الكاتب الشغوف بالاكتشاف والتأمل والنبش في ذاكرة المكان، تظهر هذا الأمكنة والجمادات بروح مختلفة في سرد الكاتب.

نوّع أزمنة الوصول إليها، وطرق الوصول إليها، لكي يقول لنا: ليس من الممكن أن نفهم روح الأمكنة من خلال عبور واحد أو رحلة واحدة. وإذا أردت أن تكتشف مكانا ما فاجعله يسكن داخلك أولا.

لذا جاء كتاب «أتلانتس بحر العرب، تدوينات من الرحلة إلى جزيرة مصيرة» الصادر مع كتاب مجلة نزوى العدد 111 يوليو2022 في (81 صفحة)، ليوسع الكاتب شمولية قراءاته وسبره لثيمة الرحلة، وما تعنيه هذه المفردة في حياة الإنسان، فالعمر رحلة، والكتابة رحلة، والرحلة رحلة. والرحلة والترحال جزء من حياة الإنسان الأول. ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث عن المعلومات، أصبح أدب الرحلة مختلفا، فهو لا يصف بسطحية الأمكنة والبشر والأشجار والأطعمة، (كل هذا يمكنك أن تجده في الشبكة العنكبوتية) بقدر ما يحاول أن ينقل روح الأمكنة وروائحها وذاكرتها وتاريخها وقصص الناس، من خلال عدسة التأمل والمعايشة إلى القرّاء.

«إن الرحلة إلى جزيرة مصيرة هي رحلة لا تنتهي، لأنها لم تبدأ بعد، هي رحلة طريق لا منتاهٍ، هي رحلة سرمدية في الخيال والذاكرة قبل أن تكون رحلة حقيقية بطرفي زمان ومكان، هي رحلة لا أريد لها نهاية» ص10

يُهدي الكاتب كتابه الرحلي والترحالي إلى أول إنسان وطئت قدماه أرض جزيرة مصيرة، ويقول له إن الدهشة والرهبة والسكون الذي أصابتك في تلك اللحظة هي نفسها التي تصيبني الآن، رغم البعد الزمني بيننا، ورغم الخبرات الإنسانية المختلفة إلا أن الدهشة واحدة في روحينا. (نجد في كتاب قواعد الرحلة الأربعون يخاطب الإنسان في كل قاعدة)، وهنا كذلك يُهدي كتابه إلى الإنسان الأول، فأحمد بن ناصر يوجه كتاباته إلى الإنسان باختلاف ثقافته وتوجهاته، لذا يمكن أن نعدّ كتابات أحمد بن ناصر الممزوجة بروح الطبيعة، هي ذات نزعة إنسانية خلاصة. «أردت لهذا الكتاب أن يكون بمثابة جسر التواصل الإنساني بين الأرض الأم والجزيرة». ص9

المكان محرك للحكاية

هذه الرحلة على الرغم أن جهتها واحدة، (جزيرة مصيرة) إلا أننا نكتشف من خلال الكتاب، أن الزيارات كانت متعددة

ومختلفة، وممتدة لأكثر من 13 سنة، من أجل اكتشاف متأنٍ لتفاصيل الجزيرة، وكأنه عاشق يتأمل وجه معشوقته، أو كأنه طفل يختبر دهشته الأولى مع الأمكنة، وفي كل رحلة يقطف منها دهشة جديدة. ففي تلويحة الوداع الأخيرة للرحلة والكتاب يكتب أحمد بن ناصر:

(لكنني أعتقد بأن لكل إنسان «إتلانتس» الخاصة به، وهذا يقودني للقول إني وجدت خاصتي، لأنها قد صعدت إلى السطح، ومدت جذورها للأرض، وأرخت شطآنها، وأرست جبالها، وحفرت وديانها، فكانت جزيرة مصيرة) ص79

فأتلانتس المفقودة في التاريخ والأساطير وجدها الكاتب أو تخيلها لتكون جزيرة مصيرة. فتوغل فيها من خلال تدوينات في فترات مختلفة، وذهب إلى تقسيم الكتاب إلى أمكنة وحوادث وقعت في الجزيرة، وكذلك بحث في تاريخ بعض الحوادث. (سكة قطار مصيرة، حادثة السفينة baron lnnerdale، وتاريخ التعدين).

«أريد للقارئ بعد اطلاعه على تجربتي هذه من خلال هذا الكتاب أن ينفرد هو أيضا بتجربته الخاصة في زيارة الجزيرة، أن يتوه كما حدث معي، وأن يكتشف أماكن جميلة صدفة كما فعلت». ص8 فالكاتب يطلب من القارئ أن يشق رحلته بنفسه وأن يتوه في الجزيرة، وأن يحاول أنسنة الأشياء، ويسأل الإنسان الأول الذي عاش في الجزيرة ويفكر فيه، وكذلك يحاول إقامة جسر إنساني للتواصل بين الأرض الأم والجزيرة. كل ذلك من خلال الكتابة، ونشعر بأن الجزيرة كأنها طفلة صغيرة تاهت عن أمها.

*** *** ***

يذهب أحمد بن ناصر في هذا الكتاب بهاجس الاكتشاف والدهشة بالدرجة الأولى مع دقة ملاحظة الأشياء، هو لم يخطط لكتابة هذا الكتاب بقدر ما كان يخطط للتوغل في تفاصيل الجزيرة، فرحلة الأمكنة ممتزجة برحلة الكتابة، ولم تفقد الرحلتان عجلات الدهشة، فالدهشة ورغبة الاكتشاف هي من دفعت الكاتب إلى التوغل إلى تفاصيل الجزيرة.

متن الرحلة/ الكتاب

فبدأ الكاتب كتابه عن الدافع لكتابة هذه التدوينات، وهي الرغبة في تشويق القارئ ليذهب بنفسه إلى هذه الجزيرة التي شبهها بالأنثى «وأنا أشاهدها على الأفق وهي تبدو كأنثى عملاقة تفترش البحر وتلتحف بالسماء» ص12 ، فهذا الكتاب الترحالي ليس دليلا سياحيا للسياح الكسالى بقدر ما هو تماهٍ وانصهار روح كاتب يعشق الترحال مع جزيرة تشبه أنثى عملاقة، ويستمتع بالتوغل في روح هذه الجزيرة، ونلاحظ أن الأمكنة هي المحرضة لكتابة هذه التدوينات، ونلاحظ كذلك التدرج في التقاط التفاصيل في الدخول المباشر إلى الجزيرة، فهو يتأمل لحظات الوصول ويدقق في وجوه المسافرين ليكتشف غاية كل واحد منهم من الرحلة «وعلى سطح العبارة ومن خلال ملاحظتي للناس إلى أي جهة ينظرون، كنت أستطيع أن أتوقع إذا ما كانوا قد تركوا حبيبا على الأرض الأم، أم أنهم في طريقهم للقيا حبيب على أرض الجزيرة». ص12

ولا ينس هذا المسافر أن يذكر ويلاحظ اسم السفينة التي حملته على ظهرها، وكذلك يتوسع بخبراته المعرفية بذكر أسماء بعض السفن التي كان لها دور في بعض الأحداث التاريخية، كسفينة «غرانما» التي أقلت كاسترو وجيفارا، وسفينة «المحروسة». وعندما يصل الكاتب إلى الجزيرة، وينظر إلى الضفة الأخرى يتذكر قول الشاعر البحريني قاسم حداد:

«لسنا جزيرة

إلا لمن ينظر إلينا من البحر».

لا يمكن أن تكون هناك جزيرة وسفينة ومسافر، ولا يستقبلهم ميناء، فاقترب الكاتب من الميناء بعدسته التأملية الفاحصة ولسان حاله:

«للموانئ لغة خاصة بها، هناك مزيج جميل جدا من الأصوات التي ترافق الموانئ، عند وصولي لميناء الجزيرة، أعرت سمعي إلى صوت الطقطقات الناتجة عن ملامسة سطح البحر أجسام السفن والقوارب» ص14

الكاتب الذي يكتشف الجزيرة بشكل سلس يستخدم كل حواسه ليلتقط كل صور الجمال، سيحدق في رصيف الميناء، ينظر بدهشة الإنسان الأول إلى أعمدة الإنارة المعدنية المتآكلة بفعل عوامل الطبيعة، وفي كل عمود نورس، وكأن هذه النوارس ترحب بالقادمين إلى الجزيرة، وسيقول الكاتب تحت سطوة الدهشة والتأمل:

«النوارس للموانئ كالطوابع للرسائل، وكما فقدت الطوابع عملها بتوقف استخدام الرسائل، ستتوه النوارس في البحار إذا ما فقدنا يوما الموانئ» ص15

وإذا ما اجتمع مسافر بميناء في جزيرة كمصيرة، فلا بد له أن يجرّب تجربة الصيد، فمثلما رمى صنارته السردية في سطح الجزيرة، فعليه أن يرمى صنارة الصيد في البحر، لعل سمكة ستخبره بقصص لا يلتفت لها السياح العجولون المترفون بالسطحية.

ولم يكتف هذا الكاتب المغامر بتأمل السفينة والميناء والنوارس، فترك قاربه على الشاطئ، وتسلق الجبل الأحمر، لينظر إلى هذه الأنثى العملاقة من علٍ.

يصعد إلى قمة الجبل، يضع علامة لكي تخبر من سيأتي بعده بأن رحالة قد وصل وحيدا إلى القمة، ويربط هذا الفعل (وضع العلامة) بما فعله الأسلاف عندما طبعوا بصمات أياديهم في الكهوف، وفي طريقه إلى قمة الجبل يتأمل في الفرق بين مفهوم الوحدة والعزلة، بعدما أقلقه سؤال الناس لماذا تمشي وحيدا؟

«أعتقد أن كثيرا من الناس يخلط بين مفهوم الوحدة والعزلة، وليس أبلغ ولا أكثر ملاءمة من تعريف بول تيليش الذي قال: «اللغة ابتكرت كلمة الوحدة لوصف ألم أن تكون وحيدا. وابتكرت كلمة العزلة لتصف شرف أن تكون وحيدًا». ص21

بهذه الطريق يواصل أحمد بن ناصر تدويناته عن جزيرة مصيرة، يتأمل، يتفحص الأشياء، يشرب من الآبار العذبة، يسرد قصة سكة القطار، والسفينة التي غرقت في عام 1904م. ستشغله فكرة البحث عن أماكن التعدين حتى لو عاد من رحلة البحث بخيبة، سيتساءل عن حكاية سيارات اللاندروفر مع الجزيرة، سيقود دراجته الهوائية لمدة 4 ساعات ليقطع مسافة 60 كلم. سيبحث عن بقايا عظام الحيتان التي ماتت على شاطئ الجزيرة.

نلاحظ، ومن خلال الأمثلة السابقة أن الكاتب في رحلته إلى الجزيرة، يدخل إليها من خلال تسلسل المشاهد السردية التي دونها في هذا الكتاب. وأن الكاتب استخدم كل حواسه ليقترب من الأشياء، ينصت للأصوات، يتأمل التفاصيل، يشرب من الآبار العذبة، يأكل من سمك الجزيرة، يشم روائح الأشجار، يراقب الكائنات البرية والبحرية، وكذلك حشد كل خبرته الثقافية لتعميق تجربة الترحال، فنجد أسماء كثيرة في معظم التدوينات، (دوستوفسكي، قاسم حداد، أحمد مطر، عبدالله الناصر، كانط، ومحمد مهدي الجواهري، وليام كوبر، وآخرون).

فمزج الكاتب بين تجربته الشخصية والواقعية في الاكتشاف مع خبرته ومخزونه الثقافي.

حمود سعود قاص وكاتب عماني