بناء جيل جديد من المؤسسات العامة
تمر المؤسسات العامة حول العالم بأزمة ثقة متفاقمة فالوزارات والهيئات واللجان وأجهزة الخدمة العامة والهيئات التنظيمية القائمة تبدو في الغالب غير ملائمة لتلبية الحاجات المستجدة، والسؤال هنا: كيف يجب أن تبدو البدائل؟
لطالما اعتمدت الحكومات على المؤسسات للقيام بمهامها، بداية من تطبيق القوانين وتعليم الأطفال وجمع الضرائب إلى توفير الأمن. وكثيرًا ما ابتكرت مؤسسات جديدة لمهام جديدة مثل خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أو مكافحة الجريمة المنظمة. وفي ظل الضغوط المالية والهجمات السياسية يتعين على دعاة الإصلاح التركيز على بلورة تعبيرات أكثر فاعلية عن المصلحة العامة، والاستفادة القصوى من الأدوات والتقنيات الحديثة لتحسين الكفاءة، واستعادة ثقة المجتمع.
غير أن خيارات تصميم المؤسسات اليوم تختلف جذريًا عمّا كانت عليه قبل جيل مضى، فقد نجحت شركات عالمية مثل "ألفابت" و"بايت دانس" و"أمازون" و"علي بابا" في ابتكار نماذج أعمال راديكالية جديدة واستغلال اقتصادات الحجم على نحو غير مسبوق. فقبل جيل واحد فقط، كان من الصعب تصور أن شركات مثل "أوبر" أو "غراب" يمكن أن تقدم خدمة سيارات الأجرة دون امتلاك سيارة واحدة، وفي الوقت ذاته طورت منظمات المجتمع المدني نماذج مبتكرة مثل "ويكيبيديا"، و"أوشاهيدي" (لتجميع البيانات عبر الحشود)، و"بورتزورغ" (لرعاية المسنين في المنازل). كما ظهرت أشكال جديدة عديدة من الشراكات بين القطاعين العام والخاص، إلى جانب آلاف الشركات ذات الاعتماد الاجتماعي والبيئي (B-corps) مثل شركة "ناتورا" في البرازيل.
وقد شهد القطاع العام هو الآخر ابتكارات لافتة، فمنذ إطلاقه عام 2009، قدّم برنامج «آدهار» في الهند بطاقات هوية بيومترية لأكثر من مليار شخص، مما أسهم بشكل واسع في توسيع نطاق الوصول إلى الخدمات المالية، وعلى مدى العقد الماضي، طبّق ناريندرا مودي شعاره القائم على "الحوكمة القصوى والحكومة الدنيا"، فيما أنشأت الصين أول إدارة للفضاء السيبراني في العالم عام 2011، كما قامت منذ عام 2002 عبر صناديق التوجيه الحكومية بتعبئة تريليونات الدولارات لصالح تطوير التكنولوجيا الجديدة.
لكن في معظم أنحاء العالم، لم تشهد المؤسسات العامة تغييرات جوهرية. فغالبيتها ما تزال تعمل وفق هياكل هرمية كما كانت قبل قرن، وغالبًا ما تتسم بالغموض وضعف الاستجابة. وحتى عندما تُنشأ مؤسسات جديدة، فإنها تُصمَّم عادةً من قِبل لجان تضم سياسيين أو موظفين حكوميين متقدمين في السن، فتأتي منغلقة، وهرمية، وقليلة المرونة.
ويكشف مسار الذكاء الاصطناعي بوضوح حجم الفجوة بين الواقع وما هو مطلوب، فقد مرّت عشرون سنة منذ أن بدأ استخدام الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في بعض الخدمات العامة (مثل إنفاذ القانون والرعاية الصحية) وكذلك في العديد من القطاعات الخاصة (مثل تقييم الجدارة الائتمانية ومحركات البحث)، ورغم ذلك، فإن العالم لا يزال في بدايات تأسيس مؤسسات قادرة على إدارته بكفاءة، سواء عبر آليات المشتريات لتعظيم قيمته في الخدمات العامة، أو من خلال التشريعات التي تحد من إساءة استخدامه، أو عبر مؤسسات متعددة الأطراف لتجميع المعرفة العالمية حول مخاطره وفرصه.
ويرجع جانب من هذا التأخر إلى الاستراتيجية الذكية التي اتبعتها الصناعة، إذ نجحت في ثني الحكومات عن التدخل من خلال تصوير الذكاء الاصطناعي على أنه أمر واقع ينبغي القبول به، وكما صرّح كبير الاقتصاديين في شركة مايكروسوفت، مايكل شوارتز، عام 2023 بأنه "لا ينبغي أن ننظم الذكاء الاصطناعي إلا بعد أن نرى أضرارًا حقيقية وملموسة قد وقعت بالفعل". ومثل هذه الحجج تصب بوضوح في مصلحة القطاع الخاص، غير أن المؤسسات العامة مُلزَمة بخدمة المصلحة العامة، وكما بيّن الاقتصادي دارون عجم أوغلو الحائز على جائزة نوبل العام الماضي، وغيره من الباحثين، فإن المؤسسات هي التي تحدد لماذا تحقق بعض الدول ازدهارًا أكبر من غيرها.
ومع ذلك، فإن الإشادة بنماذج ناجحة مثل صندوق الادخار المركزي وهيئة "تيمسيك" في سنغافورة، أو وزارة التنمية الاجتماعية في البرازيل، أو وكالة مشروعات البحوث الدفاعية المتقدمة الأمريكية، أو بنك التنمية لجنوب إفريقيا، شيء، وابتكار مؤسسات موازية قادرة على تلبية احتياجاتنا الراهنة شيء آخر تمامًا، وأكثر تعقيدًا.
ما الذي يلزم لصناعة مؤسسات رشيقة ومرنة وموثوقة؟ وما هو التصميم الأمثل الذي يتيح الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي والبيانات والذكاء الجمعي (كما تفعل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في مجال علوم المناخ)؟ وهل يمكننا البناء على تجارب ناجحة مثل مشروع "إيكاروس" الذي استثمر تكنولوجيا الأقمار الصناعية لتشييد ما يشبه "شبكة إنترنت للحيوانات"، بهدف متابعة أوضاع التجمعات الحيوانية على الكوكب؟
هذه الأسئلة المحورية أصبحت بالفعل محورًا رئيسيًا لجهود مؤسسات دولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الذي نظم مؤتمر "أيام الابتكار" في إسطنبول في أواخر مارس، بمشاركة مبتكرين يطوّرون أساليب جديدة لتحسين أداء المؤسسات.
وتجري حاليًا محاولات لبناء مؤسسات جديدة تحمي من التضليل والتدخل في الانتخابات، وتعبئ رؤوس الأموال لتمويل التحولات الطاقية في المدن، وتمكّن المجتمعات الأصلية، وتساعد الشباب على التكيف مع سوق العمل في ظل الاضطراب وعدم اليقين. وقد لخّص الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش التحدي بوضوح عام 2023 بقوله: "لن نتمكن من التعامل مع المشكلات كما هي إذا لم تعكس المؤسسات واقع العالم كما هو. فبدلًا من حل المشكلات، قد تتحول المؤسسات نفسها إلى جزء من المشكلة".
المؤسسات أشبه بالمباني، نحن من يصوغها، لكنها بدورها تؤثر فينا بشكل خفي وفي أسلوب عملنا، وقد نكون الآن في حقبة تفكيك واضطراب وعدم استقرار، إلا أن دروس التاريخ تشير إلى أن مثل هذه الظروف تفضي في نهاية المطاف إلى إعادة البناء وإعادة الابتكار وعندما يحين ذلك الوقت، ينبغي أن نكون قد أنجزنا مسبقًا عملية البحث عن بدائل أفضل. وكما يقول عالم الاجتماع والسياسي البرازيلي روبرتو مانغابيرا أونغر: "لا يزال العالم يتململ تحت نيـْر دكتاتورية غياب البدائل". ومع ذلك، يمكن لهذا التململ ذاته أن يكون وقودًا للإبداع.
جيف مولغان، أستاذ في جامعة كوليدج لندن، ومؤلف كتاب "عندما تلتقي العلوم بالسلطة".
