No Image
عُمان الاقتصادي

"الصناعات التحويلية".. خيار داعم أم ركيزة للنمو الاقتصادي العماني؟

10 سبتمبر 2025
د. يوسف بن حمد البلوشيمؤسس البوابة الذكية للاستثمار والاستشارات
10 سبتمبر 2025

يمر الاقتصاد العُماني بمرحلة دقيقة تتطلب قراءة متأنية للواقع واستشراف جاد للمستقبل، فالتحديات التي نواجهها لم تعد خافية على أحد، من اعتماد كبير على النفط وتقلبات أسعاره، إلى الحاجة الملحّة لخلق فرص عمل تتناسب مع تطلعات الشباب المتزايد. وفي السنوات الأخيرة برزت قطاعات مثل الصناعة والتعدين والنقل واللوجستيات كخيار استراتيجي قادر على أن يرفد الاقتصاد الوطني ، غير أن هذه القطاعات - مهما بلغت أهميتها- لن تؤدي دورها المنشود ما لم تُدعَم برؤية واضحة وسياسات عملية تستند إلى تنويع حقيقي في أدوات النمو، وتستثمر التحول الرقمي وتستجيب لمتطلبات الاستدامة.

ولا تقتصر الحاجة اليوم على تعزيز المؤشرات الاقتصادية فقط، بل إلى بناء منظومة إنتاجية أكثر مرونة وتكيفًا مع المتغيرات، بحيث تكون قادرة على توفير وظائف نوعية، وتحقيق قيمة مضافة، وضمان استقرار طويل الأمد يقي الاقتصاد الوطني من هشاشة الاعتماد على مورد واحد.

وسنعرج في هذا المقال على أحد أهم قطاعات التنويع الاقتصادي المتمثل في "التصنيع"، وسنتناوله كرافعة استراتيجية تعزز الصادرات، وتوسع فرص العمل النوعية، وتسهم بشكل مباشر في نمو الاقتصاد الوطني. فقد شهد الاقتصاد العُماني خلال السنوات الأربع الأولى من الخطة الخمسية العاشرة تحولات إيجابية ملحوظة، تعكس الجهود المستمرة للسلطنة في تعزيز النمو الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل، حيث سجل الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة نموًا بمعدل 3.3%، فيما ارتفعت الاستثمارات في العديد من القطاعات الاقتصادية، لا سيما القطاع الصناعي، ما يعكس كفاءة توظيف الموارد المالية في تطوير البنية التحتية ودفع عجلة التنمية المستدامة.

ومع تزايد الاهتمام العالمي بالاعتماد على الاكتفاء الذاتي من السلع والخدمات، يصبح تطوير القطاع الصناعي أولوية وطنية لا غنى عنها، قادرة على دفع عجلة التنمية المستدامة، وتعزيز تنافسية الاقتصاد العُماني، وضمان مستقبل اقتصادي مستقر ومتوازن، قادر على مواجهة التحديات العالمية واغتنام الفرص المستقبلية.

وبالنظر إلى تطورات قطاع الصناعات التحويلية في الاقتصاد العُماني خلال السنوات الأربع الماضية، يتضح أن القطاع أظهر أداءً نوعيًا واستثنائيًا، فقد بلغ متوسط معدل نمو القطاع 6.6% خلال سنوات الخطة الخمسية العاشرة، وسجل في عام 2024 نموًا بحوالي 7.5%، ما يعكس الزخم الإيجابي المستمر في هذا القطاع ، وعلى ضوء ذلك ارتفعت القيمة المضافة بالأسعار الثابتة لقطاع الصناعات التحويلية لتصل إلى قرابة 3.6 مليار ريال عُماني في عام 2024، أي ما يمثل 9.4% من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، كما شهدت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في القطاع ارتفاعًا ملحوظًا، لتصل في العام 2023 إلى نحو 4.6 مليار ريال عُماني، أي ضعف مستوياته في عام 2021، وهو ما يعكس الثقة الدولية القوية بالقطاع الصناعي في الاقتصاد العماني وآفاقه المستقبلية.

وعلى صعيد التجارة الخارجية، بلغت الصادرات الصناعية نحو 6.2 مليار ريال عُماني في عام 2024، بعد زيادة كبيرة بنسبة 44% في العام 2022، مدفوعة بالطلب العالمي القوي على المنتجات البتروكيماوية والمعدنية، مما يعكس قدرة القطاع على الاستفادة من الفرص الدولية وتحقيق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني. إن قطاع التصنيع ليس مجرد محرك للإنتاج والتجارة فقط، بل هو أيضًا حافز لخلق فرص العمل. حيث يمكن توسيع فرص التوظيف من خلال التكامل الصناعي مع قطاعات مثل التعدين والثروة السمكية.

تمثل الاستراتيجية الوطنية الصناعية إطار متكامل يمكن القطاع الخاص من الاستثمار والابتكار، وتتيح فرص واسعة في صناعات الشق السفلي عالية القيمة، والإنتاج البحري المستدام، وتطوير سلاسل التوريد المحلية. وتوفر هذه البيئة الاقتصادية أساسًا صلبًا لتمكين الاقتصاد الوطني من التحول نحو نمو صناعي متوازن ومستدام، يعتمد على الاستفادة المثلى من الموارد المحلية وتعزيز القيمة المضافة.

وتعد الصناعات التحويلية من أبرز نقاط القوة في الاقتصاد العُماني، لما تمتلكه من القدرة على تعزيز الترابط بين القطاعات الأولية ورفع القيمة المضافة. فعلى سبيل المثال، التعدين والثروة السمكية لم يعدا مجرد مصادر خام تقليدية، بل أصبح بالإمكان تطويرهما وتحويلهما إلى منتجات ذات قيمة اقتصادية أعلى تلبي الطلب العالمي وتدعم القدرة التنافسية للسلطنة.

ويمتلك قطاع الثروة السمكية إمكانية التحول من نشاط تقليدي إلى محور صناعي متكامل من خلال تطوير سلاسل التبريد، ابتكار منتجات جديدة، وتعزيز اللوجستيات الخاصة بالتصدير الدولي.

ولتحقيق الإمكانات الكاملة للقطاع الصناعي، يجب أن تركز السياسات الوطنية على أربع ركائز استراتيجية مترابطة تمكّن الاقتصاد العُماني من التحول نحو التصنيع المستدام وتعظيم الأثر الاقتصادي والاجتماعي لهذا القطاع الحيوي:

1.بناء القوى العاملة الماهرة: تحتاج الصناعات المتقدمة إلى مهارات متقدمة في الهندسة، التصميم، التشغيل، والقدرة الرقمية. ومن أجل تطوير هذه القدرات محليًا، يجب إصلاح منظومة التعليم، وتعزيز الشراكات التدريبية بين القطاعين العام والخاص، وإعادة تصور سياسات التعمين لتصبح استراتيجية شاملة لبناء قدرات صناعية وطنية متطورة، بدلًا من الاعتماد على الحصص التقليدية.

2.نظام مالي محفّز للصناعة: المشاريع الصناعية تحتاج إلى تمويل طويل الأجل وهياكل مالية تتحمل المخاطر. لذلك، يجب توسيع الأدوات القائمة على الأسهم، وإنشاء صناديق لدعم توسعة المشاريع، وتعزيز أدوات ائتمان التصدير، بما يشجع الاستثمار الخاص في القطاعات ذات الأولوية ويضمن استدامة النمو الصناعي.

3.وضوح تنظيمي وشفافية الإجراءات: يحتاج المستثمرون إلى بيئة واضحة وموحدة للترخيص، وتخصيص الأراضي، والموافقات العمالية. لذلك، يجب أن تتحول المنصات الرقمية مثل "استثمر بسهولة" إلى مراكز متكاملة للخدمات، مدعومة بقواعد تنظيمية مستقرة وشفافة، تسهّل اتخاذ القرار وتسرّع تنفيذ المشاريع.

4.بناء التجمعات الصناعية: يجب تركيز الموارد على مراكز صناعية متخصصة، مثل صحار للمواد المتقدمة، والدقم للصناعات الخضراء، وصلالة للصناعات الغذائية والسمكية. هذه التجمعات تتيح التوسع الفعال، ونقل المعرفة، وتحقيق كفاءة أعلى في سلاسل التوريد، مما يعزز من قدرة القطاع على الابتكار والتنافس عالميًا.

ووفقًا لتقارير منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية تتمثل الميزة التنافسية لسلطنة عمان في ثلاثة عناصر أساسية: أولًا، أمن الطاقة الذي يضمن استقرار الإنتاج الصناعي. ثانيًا، الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي يوفر بيئة مواتية للاستثمار. ثالثًا، الموقع الاستراتيجي الذي يتيح الوصول المباشر إلى اقتصادات القارات الثلاثة، مما يجعلها منصة مثالية للاندماج في سلاسل القيمة العالمية وبناء شراكات صناعية استراتيجية مع شركاء دوليين. تجمع هذه العوامل بين القدرة على المنافسة عالمياً وإمكانية توسيع قاعدة الإنتاج المحلي، ما يمكّن سلطنة من تحويل مزاياها الطبيعية والسياسية إلى فرص صناعية مستدامة، ويؤكد على دورها كوجهة مفضلة للاستثمارات والتعاون الصناعي الإقليمي والدولي. وعلى الرغم من الفرص الحالية، فإن نافذة الاستفادة من التحولات الصناعية العالمية قد لا تكون دائمة. فالمنافسة على مستوى التصنيع العالمي تتسارع، والاقتصادات التي تتحرك بسرعة وحسم ستستحوذ على مواقع القيادة في الجيل القادم من الصناعات التحويلية. لذلك، يجب تبني استراتيجية صناعية متكاملة وحاسمة ترتكز على:

•توجيه الحوافز الاقتصادية بشكل مستهدف لدعم المشاريع ذات القيمة المضافة العالية والقطاعات الاستراتيجية.

•تعزيز البنية التحتية الصناعية واللوجستية لتسهيل الإنتاج والتصدير ورفع كفاءة العمليات.

•تركيز الاستثمارات على بناء قاعدة صناعية قوية، لا تضمن التنافسية فقط، بل تجعل الاقتصاد الصناعي العُماني عنصرًا محوريًا وحيويًا على الصعيد الإقليمي والدولي.

ويُعد التنفيذ المبكر والحاسم للإجراءات المقترحة مدخل رئيسي لتمكين سلطنة عُمان من تحويل الفرص العالمية إلى مكتسبات اقتصادية مستدامة، وضمان موقع قيادي في سلاسل القيمة الصناعية المستقبلية. ولتحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية الصناعية وتعظيم أثرها التنموي، نوصي بإنشاء صندوق تنمية الصناعة لدعم المشاريع الصناعية ذات القيمة المضافة العالية وتعزيز الابتكار. وكذلك إلزامية تطبيق سياسات القيمة المضافة والمحتوى المحلي لضمان استفادة الصناعات الوطنية من الموارد المحلية وخلق فرص عمل نوعية. بالإضافة الى تطبيق سياسات تجارية داعمة لحماية المصانع المحلية وتعزيز قدرتها على المنافسة والنمو. ومن المهم كذلك، إعادة تخصيص الغاز للصناعات المحلية بما يتماشى مع توجهات التنويع الاقتصادي، مع اعتماد سياسة سعرية مرنة تعتمد على درجة التعقيد الاقتصادي وموقع الصناعة في سلاسل القيمة، بحيث تحقق أثرًا تنمويًا كبيرًا وتشجع الاستثمارات النوعية بدلًا من الاقتصار على الأنشطة كثيفة الاستهلاك.