No Image
روضة الصائم

فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان

30 مارس 2023
30 مارس 2023

إذا كان الإنسان يجد عرضا للتبرع للفقراء والمساكين خاصة إذا كانوا قريبين منه، وعرضا للعمرة، في حالة التخيير بين هذين العملين الكريمين، ماذا يختار؟

قبل أن نصل إلى حد التزاحم في الفضائل، أظن أن المسألة دون ذلك، يتصور الكثير من الناس أن من يذهب إلى العمرة فإنه يحبس مثل هذه الأموال التي ينفقها في أداء العمرة عن وجوه بر أخرى من نحو مساعدة الفقراء والمساكين ووجوه المعروف التي ينتفع منها المجتمع والمصالح العامة ولكن هذا غير صحيح، الواقع يؤكد أن الصلحاء الذين يحرصون على أداء العمرة بعد العمرة هم من أكثر الناس مبادرة إلى وجوه البر وصنائع المعروف، وإلى الالتفات إلى حاجات المجتمع المتنوعة وإلى تلبية هذه الحاجات، وأن هؤلاء الذين يعتبون فإنهم في كثير من الأحيان لا شغل لهم إلا العتب واللوم، فلا هم يعتمرون، ولا هم يسدون حاجة الفقراء والمساكين أو يتبرعون بما يمكن أن يتبرعوا به للوجوه التي يعتبون فيها على الآخرين بأنهم ينصرفون عنها إلى الاعتمار، ولأجل ذلك يتصورون الكثير من التصورات وهي بعيدة عن الواقع، في الجهتين، فيما يتعلق بكلفة أداء العمرة والسفر والقيام بهذه العبادة الجليلة التي يظهر أثرها تزكية وتربية وسماحة نفس وبسطة يد في الحقيقة، فتصورهم عنها تصور بعيد عن الواقع، ولا في تصورهم عن أحوال هؤلاء الذين يحرصون على هذا النوع من العبادات فيما يتعلق أيضا في صنعهم للمعروف وبسطهم لأيدي الإحسان في المجتمع وقيامهم بما يحتاج إليه الفقراء والمساكين والمعوزون والغارمون ومن أجل ذلك نحن بحاجة إلى أن نصحح هذه النظرة، ينبغي لمثل هذا الفهم أن يصحح ويعالج وألا نضيق واسعا، وأن نشتغل بأنفسنا، ونفتش عن عيوب أنفسنا وأن نسعى إلى أن نتلافى هذه العيوب ونصلح نفوسنا، ونترقى بها ونتزكى دون أن نشتغل بالآخرين، ونحن لا نعلم فالكثير منهم ينفقون نفقات سر لا يعلمها كثير من الناس، والكثير منهم يكونون بحاجة إلى تزكية نفوسهم حتى يستلوا سخائم النفوس والشح الذي يمكن أن يتملكهم فإذا بهم يرجعون وهم أكثر إحسانا للآخرين، وأندى أخلاقا وأوسع يدا للآخرين، ما نشأ ذلك إلا بفعل قربهم من الله تبارك وتعالى بأدائهم أنواع مخصوصة من القربات.

وأن لو حصل ووصل الحال إلى تزاحم بين عبادة من النوافل نفعها يقتصر على الفاعل فقط، وعبادة أخرى نفعها يمتد ويشمل، فإن ما كان نفعه أعم وأوسع هو أفضل وأولى، وهو أحسن ثوابا وأجرا عند الله تبارك وتعالى، ما لم يكن هنالك معنى آخر، فعلى سبيل المثال الذهاب إلى بيت الله العتيق، فقد تشتاق نفسه، ويضيق الحال به لشدة شوقه إلى أداء العمرة وإلى ذكر الله تبارك وتعالى في بيت الله الحرام في أطهر بقعة في هذه الأرض، وقد وجد من نفسه سوء طباع في نفسه وفي عبادته وفي علاقاته بالآخرين، فهو بحاجة إلى ما يجدد به إيمانه ويزكي به نفسه فيذهب إلى العمرة، فهناك بحمد الله من يمكن أن يلبي حاجة الفقراء والمساكين وهذه الوجوه التي يشير إليها السائل، فنحن بحاجة إلى فهم صحيح لهذه المسألة.

نعم قد نأتي ونقول إن بعض الذين يكثرون دون أن يلتفتوا إلى حاجة المجتمع وإلى صنائع المعروف الأخرى وإلى احتياج الناس إلى من يعلمهم وإلى من يدعوهم إلى الخير وينبههم إلى الأخطاء والبدع التي يقعون فيها وإلى ما يعينون به الذين ضرستهم غوائل الحياة بأنيابها، وهذا لا يلتفت إليهم، يظن أنه لا قربى إلا في أداء العمرة، ولا خير ولا معروف إلا بأداء العمرة ولا يلتفت أبدا إلى هذه الوجوه، نعم هذا يمكن أن يلام وينبغي له أيضا أن ينتبه إلى نفسه، فقد يكون أصيب بشيء من الغفلة عما هو أولى وأفضل وأحسن، وانصرف إلى ما هو دونه في الأجر والثواب، فمثل هذا ينبغي له أن يسلك سبيل الرشاد وأن يتثبت من أحوال نفسه، ويتحسس أحوال المجتمع فيوازن بين احتياجات نفسه من ما يزيده تزكية وصلاحا وإصلاحا وبين احتياجات مجتمعه لا سيما حينما تجتمع الظروف على الناس وتضيق أحوال معيشتهم، ويكون له أن يعينهم بشيء فيمتنع عن ذلك، فمثل هذا يقال له أنه بحاجة إلى مراجعة نفسه. والله تعالى أعلم.

وهناك مقولات يراد بها التثبيط عن عمل الخير وعن الإقبال على صنائع المعروف ووجوه القربات، والنوافل التي يحبها الله تبارك وتعالى ويدعو إليها هذا الدين، ولا ريب أنها تربي الأنفس على الخير والصلاح وتهيئها للإقبال على وجوه البر الأخرى بينما تجد أصحاب هذه المقولات لا همّ لهم ولا شغل إلا أن يضعوا رجلا على رجل، ويصدروا مثل هذه المقولات، وتجد أن وجوها من الإنفاق في أمور هي من السفه واللهو والترف لا يتحدثون عنها، ولا يستنكرونها ولا ينهضون بكلمة خير ولكن حينما يرون أنواع البر وصنوف الطاعات فإذا بهم يشحذون سنانهم ويسلطون سهامهم على من يقومون بذلك، هذا من التطفيف والله تعالى يقول «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» فالمسألة لا بد فيها من تصحيح هذا الواقع والتعاون عليه.