No Image
روضة الصائم

فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان

24 مارس 2023
24 مارس 2023

ـ ما صحة حديث الشريف «مَن مات ولم يَغْزُ، ولم يُحَدِّثْ نفسَه بالغزو مات على شعبةٍ من النِّفاق»؟

الحديث صحيح، وهو يدل على ما يغرسه هذا الدين في نفس صاحبه المنتسب إليه من حب معالي الأمور من الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله، وأنه إن لم يتيسر له ذلك، فإنه يستصحب هذه النية دفعا للظلم وعونا للمظلومين ودعوة إلى الله تبارك وتعالى وإزالة لكل ما يمكن أن يحول بينه وبين الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فمن فضل الله تبارك وتعالى علينا أنه جعل النية عند تعذر الحال تقوم مقام الفعل نفسه في مثل هذه المواضع، أي أنه إن لم يتيسر ولم يحصل له ذلك فإنه لا أقل من أن يستصحب هذه النية فإذا دعاه داعي الجهاد فإنه ينوي أن يلبي مستعينا بالله تبارك وتعالى أي الجهاد المشروع الذي يكون كما تقدم دفعا لظلم أو عدوان أو بغي، وإزالة لما يحول بين وصول دعوة الحق إلى الخلق أو كفا لظلم البغاة المعتدين، أو غير ذلك من الموجبات الشرعية، فإنه يستصحب هذه النية سائلا الله تبارك وتعالى أن يعينه على نفسه وأن يمكنه من أداء الواجب والله تعالى أعلم.

ولا يمكن أن نحصر معنى هذا الحديث أو أشبهه من أدلة في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدلالة التاريخية وأنه لا علاقة له بالواقع، وإلا فإن هذه الأمة برجالها وثرواتها ستصير نهبا لكل طامع، فإن استصحاب هذه الروح والتأهب لمثل هذه الأحوال هو من الإعداد الذي يريده الله تبارك وتعالى لعباده المسلمين حتى لا يطمع فيهم مريض قلب أو صاحب هوى، أو من يمكن أن تحدثه نفسه أن يستولي على المسلمين أرضا وبلادا وثروات وخيرات، وما أصيب المسلمون في الحقيقة إلا حينما تخلوا عن هذه الروح وابتعدوا عنها شيئا فشيئا إلى الحد الذي ما عادت فيه نفوسهم حتى تحدثهم أن يبذلوا أنفسهم وأرواحهم في سبيل نصرة هذا الدين والدفاع عن حوزته وحماية حماه، والذود عن حياضه، ورفع البغي والظلم والعدوان عن بلاد المسلمين إن أصابهم ذلك.

فهذا هو المقصود أن يوضع في موضعه الصحيح، لا يقصد من ذلك الجور والعدوان على الآخرين، ولا أن تقوم حركات بترهيب الناس والعدوان عليهم في أنفسهم أو في أموالهم أو في أعراضهم ثم يحتجون بعد ذلك بهذا الحديث أو بغيره من الأحاديث، هذا وضع للأدلة الشرعية في غير موضعها وهذا من انتحال المبطلين وتأويل الغالين الذي لا يقبل في دين الله تبارك وتعالى.

وأما القراءة التاريخية للنص فذلك بحسب النص نفسه والسياق الذي ورد فيه، على أنه لا يخلو دليل مما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فائدة، فعلى سبيل المثال حتى فيما يتعلق بالتدبير في شأن الحرب، في الموضع الذي يتخذه المسلمون على سبيل المثال، هذا حدث حصل ورآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووجه إليه أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، لكن أخذ العبرة والعظة في مثل هذا الموقف لا تنقطع، وليس فيه تشريع ملزم وإنما ما يتعلق بحسن السياسة، وحكيم التدبير، يؤخذ من مثل هذه المواقف التي يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تصرف فيها تصرفا ليس القصد منه تصرف التشريع، إلى حد أنه حتى في الأفعال الجبلية البشرية التي يأتيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن الذي يتأسى به فيها بقصد التأسي فإنه يؤجر على ذلك، فرأينا ابن عمر على سبيل المثال يقفو أثر خطوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويلبس مثلما كان يلبس، حتى في الحذاء، لأنه يحمل نفسه على التأسي والاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا ريب أن من يصنع مثل ذلك ويتأسى به عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، حتى في خصاله وصفاته البشرية، وأعماله اليومية، وفي كيفية نومه ولباسه، وأدبه مع الناس فإنه يؤجر على ذلك، أما في الحادثة الخاصة التي تكون لها ظروفها وأحوالها فإن القرائن ستشهد على أن المقصود هو ذلك الحدث الخاص، وهذا يتقنه أهل العلم، ولا يسوغ أن يعمم الحكم على غير تلك الحالة الخاصة.

وهذا هو إجمال ما يمكن أن يقال في مثل هذه المسألة، وإن كان الناس للأسف الشديد وقعوا بين طرفين، بين طرف من يجري الأحكام كلها على أنها تشريع منه عليه الصلاة والسلام ملزم، مع أنه قال فيما يتعلق بشأن الزراعة على سبيل المثال في حادثة تأبير النخيل، ثم لما أصاب النخل ما أصابها قال أنتم أعلم بشأن دنياكم، وهنا الشأن هو شأن زراعة يعني أن تحمل كل أقواله عليه الصلاة والسلام على أنها تشريع ملزم ليس هذا بصواب، والعكس أيضا فنجد نصوصا تشريعية واضحة وإن كانت قد حصلت في مناسبات ولها أسباب إلا أن ألفاظها عامة والحكم الشرعي المأخوذ منها حكم عام لا يقتصر على تلك الحادثة أو المناسبة أو الأشخاص الداخلين فيها، وإذا بنا نجد أن بعضا ممن ينتمون إلى هذه الأمة يريدون أن يقرؤوا هذا الدليل الشرعي قراءة تاريخية فيحصرونه في تلك المدة الزمنية التي حصل فيها، وهذا أيضا من الشطط والغلو ومن التفريط في دين الله تبارك وتعالى، ولذلك لو حاول امرئ أن يحصر هذه الأحوال الخاصة التي لا يظهر فيها أثر التشريع سيجد أنها قليلة يسيرة وهي بينة واضحة أيضا لا يلتبس أمرها.