روضة الصائم

«ريـحـة رمضــان»

28 مارس 2023
كانت لنا أيام
28 مارس 2023

تعود التماعات الوعي الأولى برمضان عندي بالصيف، ولحظة وصول الكهرباء الحكومية إلى الحارة، والبشارات المبكرة لموسم حصاد الرطب الذي نسميه محليا بـ«القيظ». وتلكم الالتماعات تعود إلى مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، فهذه النقاط الثلاث شكلت مثلثا متكاملا لنقطة الوعي تلك، البعيدة زمنيا ولكنها القريبة روحيا.

كانت هناك العديد من الماكينات التي تعمل بالديزل لتوليد الكهرباء، التي اشتراها بعض الميسورين لأجل توفير الكهرباء في البيوت بمقابل مالي، ولكن المدة الزمنية لعمل تلك الماكينات تقتصر من فترة العصر إلى حوالي الساعة العاشرة ليلا، بعد ذلك تكاد القرى تغرق في الظلام الدامس لولا القناديل التي تعمل بالكيروسين (حل تراب)، والمصابيح اليدوية (بجالي) التي تعمل بالبطاريات. وليس من سبيل لجلب النوم سوى بالصعود إلى سطوح البيوت واستخدامها مكانا للنوم، وذلك بعد أن ترش بالماء لأجل إطفاء ما خزنته من حرارة الشمس في النهار، ويزاد على ذلك بأن يرش الماء على ما يتخذ من فراش للمنام، هذا فضلا عن رش الألحفة، وذلك في اصطياد النوم الذي لم يكن تنغصه الحرارة، بل يتشارك معه البعوض وما خلق الله من دواب وحشرات تسرح وتمرح في حضور البشر وغيابهم.

كانت سيارة بيع الثلج في الأيام العادية تمر مرتين على كل حارة، مرة في الصباح ومرة في العصر، أما في رمضان فتمر في الفترة التي تتوسط الانتهاء من صلاة العصر وموعد الإفطار، وكان الثلج على هيئة قوالب مستطيلة يحاول البائع أن يبقيها متماسكة وصلبة بتغطيتها بما يتيسر له آنذاك من خيش أو قطع كبيرة من البلاستيك. ويخرج أهل القرية للحصول على كسرات من ثلج تؤمن لهم شربة ماء باردة حين يتحلقون حول مائدة الإفطار، ولم تكن تلك المائدة بذلك الغنى والتنوع الموجود في أيامنا هذه، ولكنها تكفي لإبقاء المرء قادرا على مواصلة صيامه وحياته.

أما سيارة الـ«حل تراب» فكانت تأتي في أيام محددة من الأسبوع بعكس سيارة الثلج؛ وذلك لكون زيت الإضاءة يستخدم لفترة محدودة من الليل ويمكن أن يخزن لفترة أطول من فترة تخزين الثلج. وكانت السيارة تقف تحت سدرة الحارة وباندهاشة الطفولة وفضولها من تلك المضخة التي تجلب السائل من عمق البرميل لينشر شذا الرائحة في الجو الحار، ذلك الشذا الذي يختلط بروائح البشر المنتظرين بعيون شاحبة من أثر الصيام، كانت النغمة التي تصدر من اندلاق السائل داخل الأوعية، تتناغم مع ما تطلقه العصافير والحشرات الطائرة فوق الحشد المتجمهر، فشذا الرائحة وصوت السائل يندغمان في مسار واحد وهو يندلق في الأوعية المختلفة والمتنوعة كل بحسب حاجته وما يجده من آنية لاحتواء السائل الذي يعين على محاربة الظلمة وما يندس خلفها من مخلوقات.

في يوم صيفي بعيد غائر داخل الذاكرة من أيام سنة 1983، يوم لا يكاد يغيب عن البال أبدا، يوم لا أستطيع الآن أن أحدد مكانه على رف الأسبوع، ولكنه يقع ضمن الأسبوع الذي عاين فيه أهل القرية ما سيجعل من رمضانهم في تلك السنة رمضانا بطعم مختلف، بل بالأحرى فإن حياتهم ستتغير بعد ذلك بشكل كلي. كنت أمشي خلف أبي -رحمه الله- ذاهبين باتجاه مسجد العرقوب للاستحمام من الفلج ولأداء صلاة الظهر، وعند مدخل الحارة وصلت إلى أنفي رائحة نفاذة ولفت انتباهي الحلقات العملاقة المغطاة بالخشب، سألت أبي عن ذلك، قال لي: الرائحة تأتي من الأعمدة الخشبية لضمان حمايتها، كما أن الأعمدة ستحمل الأسلاك الناقلة للكهرباء الموجودة داخل تلك الحلقات الكبيرة، فالكهرباء القادمة ستكون مستمرة إذن وليس لفترة محددة هذا ما استوعبته لحظتها.

في صباح ذات اليوم، كنت مع أبي -رحمه الله- وهو يفتش في عذوق نخيل النغال عن البسرات التي شارفت على النضج، وكثيرا ما يعمد الناس إلى ما يسمونه (تنفيض النخلة) لتحفيزها على بدء موسم العطاء ولتخليص العذوق مما قد تحويه بين الشماريخ من أحمال زائدة من ثمرات معطوبة أو جافة. وبعد محاولات كثيرة من أبي، تمكنا من جمع حبات من البسر، كان بعضها يفصح على استحياء عن دخولها الخجول إلى مرحلة الرطب، بينما الأخريات يتوهجن في صفرة تبطن مذاقا لذيذا. وعندما رآني أبي أقلب البسر بيدي محاولا التقاط رطبة كاملة قال لي: سأعلمك طريقة سهلة لتحويل البسر الأصفر إلى رطب. وعندما عدنا إلى البيت، حمل في دلو رملا من خارج البيت وصعدت معه إلى السطح حيث فرش الرمل، وطلب مني جلب حبات البسر الصفراء المتوهجة، وأخذ يدفنها في الرمل. أخبرني بأنه حين يحين موعد الإفطار سنكشف عنها الرمل وسنجدها قد تحولت إلى رطب. وبالفعل فإن بعض البسر الذي قد اكتمل نضجه تماما قد سرّعت حرارة الرمل والجو معا في تحويله إلى شكل الرطب الذي يمكن أن يؤكل على مائدة الإفطار البسيطة في أيامنا تلك.

رائحة رَوْح رمضان تنبعث من أشياء وأماكن كثيرة لا تعد ولا تحصى، من قطرات الماء التي نرشها على الفراش الذي ننام عليه وعلى الألحفة، تلك القطرات التي ما نكاد ننزلق إلى النوم حتى تجف ولكننا نستيقظ نشطين بلا مروحة أو مكيف من قيلولة يحرسها لهب الصيف، ومن مشاوير جلب القت والزرع للحيوانات التي تسكن معنا في البيت، ذلك المشوار الذي يستحق أن تفرد له الصفحات، فهو مشوار تفسح فيه لرئتيك استخلاص روائح الطبيعة بكل ما تكتنزه من عبق، ومن رائحة العشب الطرية المختلطة بنداوة التراب تداعب الأنف، وأعواد البرسيم المتقافزة من رأسك وأنت عائد إلى البيت فرحا بما ستجده على مائدة الإفطار من طعام وبما سيقدم إلى الحيوانات من غذاء كنت أنت السبب في قطعه وربطه وحمله على رأسك لمسافات قد تطول وقد تقصر.

لكن الرائحة التي لا يخفت ضوعها، ولا ينقطع تدافعها، تلك الرائحة التي لا يطالها القدم. وكان لمسجد الحديث -القريب من الحارة- صرح محاط بشجرات نارنج ربما خمس أو أكثر تحيط بالمسجد من جهتين: الشرقية والشمالية، ويطيب الجلوس في الصرح بعد صلاة العصر، حيث إن الشمس تكون قد حُجبت بفعل القامات العالية لأشجار النخيل المحيطة بالمسجد، ورائحة زهر (بِل) النارنج تلف المكان بعباءة محكمة النسج ولا يكاد يفك إحكام تلك العباءة إلا رائحة القهوة التي تطلق أفراسها في الهواء على دفعتين، الدفعة الأولى حينما يتم قليها، والدفعة الثانية حين يتم غليها قبل موعد الإفطار، وبالطبع هناك روائح أخرى تدخل في المشهد الروائحي الذي كان عبير البل والقهوة مقلية ومطبوخة، لحمته وسداه. ذلك المشهد الذي يقربك من موعد الإفطار، ولكنه يدخلك في حالة من الوجد ويصنع منك نسمة تعبر المكان الظليل بسكينة العاشق العابد.