No Image
روضة الصائم

الخليل بن أحمد الفراهيدي

22 مارس 2023
رواد الأدب العماني
22 مارس 2023

الخليل بن أحمد الفراهيدي، ولد في عُمان عام (100هـ/718م)، من أهل ودام من الباطنة، وخرج

إلى البصرة صغيرا مع والديه، فأقام بها ونسب إليها. وتلقى العلم على يد علمائها، وتحكي المصادر عن ذكائه الخارق، وجرأته منذ نعومة أظفاره، وقد تأثر الخليل بحلقات العلم فقد كان منظر الناس متحلِّقين في المساجد حول الحسن البصريِّ، أثَّرت في نفس الخليل منذ صباه في البصرة، وحرَّكت في أعماقه الرغبة في السير على هذا الطريق، إذ لم تبهره الجوانب المادية من حياة الناس، ولا بهرج المال وزخارفه، فقد رأى العزَّ الحقيقي في العلم، الذي ينظر الكثير إليه باستخفاف وازدراء. وهكذا راح الخليل يتنقَّل بين حلقات اللغة العربية وعلومها وآدابها، ولم يجلس الخليل إلى أستاذ واحد، وإنَّـما كان ينتقل من شيخ لآخر، ومن حلقة في المسجد إلى أخرى في المربد، ومن خلال تتبُّع أخباره وأقواله وأفعاله وسيرته، نجد المقولة الرائعة عن العلم: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلَّك، ثم أنت بإعطائه إياك بعضه مع إعطائك إياه كلَّك على خطر». ويمكن القول إنَّ الخليل من أوائل من جمعوا العلم للحياة، أو العلم من أجل العلم لا من أجل الكسب والرياء وحبِّ الظهور، ولذا قيل عنه كان من المنقطعين للعلم. وهكذا انكبَّ على علوم العربية وعلوم الشعوب المستعربة مثل العلوم الرياضية والإيقاع، ولعلَّه قرأ مترجمات للمنطق اليونانيِّ.

كان الخليل غيورًا على اللغة العربية (لغة القرآن)؛ مما دفعه إلى العمل على وضع قواعد مضبوطة للغة، حتى عدَّه العلماء الواضع الحقيقي لعلم النحو في صورته النهائية، التي نقلها عنه تلميذه (سِيبوَيه) في كتابه المسمى (الكتاب) بل وألف الخليل أقدم منظومةٍ نحوية، بلغت 293 بيتا، وضمَّت معظم أبواب النحو ومسائله، ونقل منها خلف الأحمر (ت: 180) بيتين في كتابه: مقدمة النحو.

وذات يوم ذهب الفراهيدي إلى الكعبة حاجًّا، فتعلق بأستار الكعبة، ودعا الله «اللهم هب لي علما لم يسبقني إليه أحد».. قالها وهو يتضرع إلى الله متعلقا بأستار الكعبة، كان يرجو أن يسبق الناس بوضع علم جديد، فيكون سبَّاقا إلى الخير، ولم يكن هذا الرجاء وليد تكاسل وتواكل، بل كانت قدراته ومهاراته تؤهله لأن يكون عظيم الشأن. ثم عاد إلى وطنه، فاعتزل الناس في كوخ بسيط من خشب الأشجار، كان يقضي فيه الساعات الطويلة يقرأ كل ما جمعه من أشعار العرب، ويرتبها حسب أنغامها، ويضع كل مجموعة متشابهة في دفتر منفرد.. فلمعت في ذهنه فكرة لم العَرُوض -ميزان الشعر أو موسيقى الشعر- الذي مَيَّز به الشعر عن غيره من فنون الكلام، فكان للخليل بذلك فضل على العرب، إذ ضبط أوزان الشعر العربي، وحفظه من الاختلال والضياع.

ولم يكتف الخليل بما أنجزه، وبما وهبه الله من علم؛ استجابة لدعائه وتوسله وتضرعه، فواصل جهوده وأعدَّ معجمًا يعَد أول معجم عرفته اللغة العربية، وامتدت رغبته في التجديد إلى عدم تقليد من سبقوه، فجمع كلمات المعجم بطريقة قائمة على الترتيب الصوتي، فبدأ بالأصوات التي تُنْطَق من الحَلْق وانتهى بالأصوات التي تنطق من الشفتين، وهذا الترتيب هو (ع-ح-هـ-خ-غ...) بدلا من (أ-ب-ت-ث-ج...) وسمَّاه معجم (العين) باسم أول حرف في أبجديته الصوتية.

تعوَّد الناس أن يشكِّلوا الكلمات بالنقط حسبما توصَّل إلى ذلك أبو الأسود الدؤلي، ولكنَّ الخليل وجد أنَّ هذه النقط كثيرا ما اختلطت بالنقط في الحروف المعجمة مثل: الياء والثاء والباء، وغيرها، فلا يميز بين نقط التشكيل ونقط التعجيم إلا بالألوان: اللون الأسود للتعجيم، واللون الأحمر للتشكيل، وهكذا هداه تفكيره بعد طول تأمُّل إلى الرمز للحركات بعلامات أخرى تتميز في أشكالها عن النقط، فرمز إلى حركة الضم في الكلمة بواو صغيرة (و) مكوَّنة في أعلى الحرف، وللفتحة بألف صغيرة (ا)، وبالكسر ياء صغيرة (ي)، وقد رُفضت هذه الطريقة من معاصريه خوفا أن يتغير بذلك رسم القرآن، وظلَّ رفضهم هذا دهرا بعد وفاته، ثم تعوَّد عليه الناس وقبلوه وأقبلوا على استخدامه حتى يومنا هذا.

إنَّ نزعة التأمُّل التي وُهبها الخليل ساعدته كثيرا ليس فقط في اكتشاف تلك العلوم والفنون بل حتى في التعامل مع الناس، فقد كان يَنظر إلى الناس نظرا عميقا، ويجعل موقعه منهم تبعا لصنفهم، فالمعتدي عليه لا يمكن إلا أن يكون واحدا من ثلاثة: أعلى منه مقاما، أو مساويا له في الرتبة، أو دونه. وكلٌّ من هؤلاء يستحقُّ أن يسكت عن هفواته، ويقال إنَّ سائلا قدم عليه وهو في حلقة من حلقاته العلمية، فوجَّه إليه سؤالا بدا لسامعيه سهلا بسيطا، فأطرق الخليل يفكِّر فأطال في ذلك تفكيره، حتى ملَّ السائل موقفه ذاك، فغادر حلقته مغاضبا، وتعجَّب تلامذته من عدم إجابة شيخهم ذاك السائل عن سؤال بدا لهم سهلا ميسورا، فقال الخليل: ما الجواب عندكم؟ قالوا كذا‍، قال: فإنَّـه يضيف أمرا جديدا لم تنتبهوا إليه، فيقول: فما يكون جوابكم؟ قالوا: يقول كذا، قال: كان يقول لكم كذا فما تجيبون؟ فنظروا في ذلك فوجدوا أنهم ضلُّوا السبيل بأجوبتهم فسكتوا وانقطعوا، فقال: لقد لمتموني على تأخري في الجواب، ولكنِّي ما أجبت بجواب قط إلا وأنا أعرف آخر ما فيه من الاعتراضات والمؤاخذات، وقبيح بالمجيب إذا ابتدأ بالجواب أن يفكِّر بعد ذلك، وليس معيبا في حقه أن يؤخِّر الجواب، فليست كلُّ أمور العلم تحل في ساعتها، وما العيب إلا أن يُسرع العالم في العلم ثم يتبين له خطؤه فيه، لأنَّـه إن أخطأ ظهر خطؤه وأضاع مكانته، فزلَّته يضرب بها الناس بالطبل لأكبر الحوادث، حتى لحظة مماته كانت لحظة تأمل تتمثل في تألمه لحال جارية ظلمها البقال لأنها لا تعرف الحساب فقال في نفسه:

أريد أن أقرّب نوعا من الحساب تمضي به الجارية إلى البقال، فلا يمكنه ظلمها.

استغرق في التأمل حتى استولى عليه، وهو يفكر في ابتكار طريقة في الحساب تسهله على العامة، ولا سيما الجارية الصغيرة إذا أرادت شراء حاجة لها، فدخل المسجد وهو يعمل فكره، فصدمته سارية من سواري المسجد، وهو غافل عنها، فوقع على ظهره، وعلى إثرها انتقل إلى رحمة الله سنة 170هـ.

عُرِف الخليل بالتعبد والورع والزهد والتواضع، قال عنه تلميذه النضر بن شميل: «أكلت الدنيا بعلم الخليل وكتبه، وهو في خصّ لا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال». وكان من زهده في دنيا المادة أن ابتعد عن التزلُّف لرجال الحكم، فلم يقف عند أبوابهم متملِّقا يرجو عطاءهم، أو مادحا يتطلَّع إلى نوالهم، وكثيرا ما ردَّ بإباء ما كانوا يعرضونه عليه من عروض مغرية.

وعن سفيان بن عيينة أنه قال: من أحب أن ينظر إلى رجل خلق من الذهب والمسك، فلينظر إلى الخليل بن أحمد.

‏ قال الثوري‏: اجتمعنا بمكة أدباء من كل أفق فتذاكرنا أمر العلماء فجعل أهل كل بلد يرفعون علماءهم ويصفونهم حتى جرى ذكر الخليل فلم يبق أحد منهم إلا قال‏: الخليل أذكى العرب وهو مفتاح العلوم ومصرفها‏. ‏

وقال نصر بن علي الجهضمي‏:‏ عن أبيه كان الخليل من أزهد الناس وأعلاهم نفسًا وأشدهم تعففًا، ولقد كان الملوك يقصدونه ويتعرضون له لينال منهم فلم يكن يفعل ذلك وكان يعيش من بستان خلّفه له أبوه‏.