No Image
روضة الصائم

الأوقاف العمانية.. هوية وطنية مميزة

13 مارس 2024
13 مارس 2024

لكلّ مجتمع من المجتمعات البشرية هُوية تميزه عن المجتمعات الأخرى، تتشكل هذه الهوية عبر الزمن على أسس ومؤثرات عدة منها: عقيدته، وموروثه الثقافي والسياسي، وتأثير الجغرافيا والمناخ على حياته، ومستوى تفاعله الحضاري مع الآخر، تنصهر كل تلك المؤثرات لتصبح طابعًا خاصًا ومميزًا لكل مجتمع، فتنعكس على إنتاجه الحضاري في الجوانب الفكرية، والمادية والثقافية، والعمرانية وغيرها، فتظهر في مفرداته الثقافية، وأَعْلامه، ومعالمه، وعاداته، وعمرانه، ومأكله، وملبسه، وتعامله مع الآخر وفي غير ذلك مما يعكس الصورة العامة لذلك المجتمع.

يعد الوقف أحد المنجزات الحضارية التي تفننت المجتمعات المسلمة في ابتكار الجديد والمفيد فيها من حيث أبواب الوقف، والمال الموقوف وإدارته، وذلك وفقا للاحتياجات المختلفة والمتجددة لتلك المجتمعات عبر مرور الزمان واختلاف المكان، الأمر الذي أكسب الوقف تنوعا كبيرا، وثراء ظاهرا في طبيعته ومفرداته، نظرا لانعكاس هوية كل مجتمع من المجتمعات على جوانب الوقف فيها، وهو ما يمكن ملاحظته في الأوقاف العمانية التي عكست بشكل واضح هوية المجتمع العماني من حيث طبيعة النشاط الاقتصادي للمجتمع، وعاداته وتقاليده، واحتياجاته التي فرضتها طبيعة الحياة فيه.

تُعد النخلة والفلج من الرموز الحضارية التي تُعبّر بالضرورة عن الهوية الاقتصادية عموما، الزراعية خصوصا، في سلطنة عُمان عبر تاريخها الطويل، ففي كل القرى العمانية تقريبا توجد النخلة أو الفلج أو كلاهما، وشكلا العمود الفقري لاقتصاد الإنسان العماني لكونهما ركيزتين مهمتين للأمن الغذائي والمائي في البلاد، ولما يمثلانه من استدامة للعطاء؛ لذلك كان من الطبيعي جدا أن يشكلا عنصرا مهما في الوقف في عمان، حتى في مسندم.. البلد الذي تُعد فيه الأرض الزراعية شحيحة نظرا لطبيعة البلاد بين الجبل والبحر والوادي؛ كانت النخلة حاضرة في الوقف وعلامة مميزة جادت بها اليد العمانية في سبيل الخير. فكانت (النخلة، أو الجلبة، أو المال) إلى جانب (الأثر) من ماء الفلج دعامة الوقف، وعلامته المميزة في الأوقاف العمانية، ويعد وقف الإمام وراث بن كعب (ت: 192هـ/807م) لأمواله ونخله في وادي بني خروص - منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة مضت - علما بارزا لأوقاف النخل، كما أن وقف الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي (ت: 1091هـ/1680م)، لتسعة وعشرين أثرا من ماء فلج دارس - أحد أكبر الأفلاج العمانية وأهمهما- يعد علامة بارزة لأوقاف مياه الأفلاج، وبالنخلة والفلج أصبح (المال الأخضر) أكثر الأصول الموقوفة في عمان.

لم يقتصر تأثير الهوية العمانية على الأوقاف في جانب الأصول (النخلة والفلج)، فقد تعددت الجهات الموقوف لها والتي تعكس هوية المجتمع العماني، فالشواء الذي يعد ركنًا أصيلًا في احتفالات الأعياد في عمان والذي يتطلب تحضيره مادة (الخل) وحفرة (التنور)، كان حاضرا في الأوقاف العمانية ففي كثير من القرى العمانية وجدت أوقاف الخل، والتي تمثلت في وقف نخيل يصنع من تمرها الخل، إضافة إلى وجود أوان فخارية (الخروس) لحفظ الخل، كما وقفت أوقافا مخصصة لتجديد تلك الأواني حال تكسرها، أما حفر التنور فقد وقف لها أوقافا لصيانتها، وتجهيزها، وتوفير ما تحتاجه من الحطب، ويعد وقف المنفقة عائشة بنت محمد بن يوسف العبرية (ق12هـ/18م) بستان نخل مع ما يحتاجه من الماء لصناعة الخل بولاية الحمراء مثالا واحدا من عشرات الأمثلة لهذا النوع المميز من الأوقاف، كما أن أوقاف التنور حاضرة في كثير من حارات المدن العمانية التقليدية مثل نزوى والرستاق وبهلا وأدم وغيرها.

وفي صلالة، الحاضرة التي تربط صحراء ظفار وجبلها بالبحر وما ورائه من عوالم، كان للمجتمع احتياجاته المتعددة التي انعكست بطبيعة الحال على الوقف، لاسيما احتياجات المسافرين على الطرق التي تربط السهل بالجبل والصحراء فكانت أن برزت ملامح نوع آخر من الأوقاف النابعة من الهوية العمانية، ألا وهو أوقاف (الزوايا)، والزاوية قبة صغيرة، تبنى لتظلل حوضا للماء بهدف حفظ نظافته، وتبريده ليكون مناسبا للشرب، تكون الزوايا عادة ملحقة الجوامع الكبيرة في الحارات، أو تبنى خارج المدينة على الطرق العامة التي تربط بين المدن والقرى. ترتبط الزاوية ببئر ماء، وبأوقاف أخرى لخدمتها (صيانة الزاوية، وحفر البئر، ونزف الماء، ولشراء الحبال والدلاء وما تحتاجه الزاوية من متطلبات)، كما أصبح طابعها العمراني المميز بالقبة؛ علامة بارزة لاسترشاد المسافر والمحتاج إلى مكانها، ويعد وقف الحَبُوبَة فاطمة (ق14هـ/20م) في المنطقة المعروفة اليوم بـ(الزاوية) في مدينة صلالة شاهدا مهما على هذا النوع من الأوقاف العمانية.

إن الأسس التي قامت عليها الأوقاف العمانية نابعة بلا شك من أركان الشعيرة التعبدية التي تعد موجها لجميع الأوقاف في البلاد الإسلامية، فلا تختلف عنها في جوهرها، إلا أن لها طابعها المميز الذي اكتسبته من تأثير هوية المجتمع العماني واحتياجاته عبر التاريخ، في طبيعة المال الموقوف، والجهات الموقوف لها.

د. خالد بن محمد الرحبي: باحث في التاريخ الحضاري العُماني عموما، والوقف على وجه الخصوص.