No Image
روضة الصائم

أبو حمزة الشاري

28 مارس 2023
رواد الأدب العماني
28 مارس 2023

ولد أبو حمزة في قرية مجز من أعمال صحار، واسمه المختار بن عوف الأزدي. وينتمي إلى قبيلة بني سليمة... ثم هاجر إلى البصرة حيث كانت ملتقى العلم والعلماء والتحق بمدرسة الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة، فكان من خيار تلاميذه. ثم كان أبو حمزة من المؤسسين لدولة الإمامة في اليمن وحضرموت حينما بعثه شيخه أبو عبيدة مع صاحبه بلج بن عقبة نجدة لأهل حضرموت فبايعا عبدالله بن يحيى الكندي (طالب الحق) بالإمامة. وبعد قيام دولة الإمامة في اليمن وجه الإمام طالب الحق قائده أبو حمزة على رأس جيش الحجاز لتخليصها وتطهيرها من بني أمية، فهي موطن الإسلام وفيها الحرمان الشريفان، وقيامهم هذا لم يكن لطلب ملك ولا لثارات قبلية، أو فساد في الأرض، وإنما لإحقاق الحق والقضاء على الباطل، يتضح ذلك من سيرة أبي حمزة وأصحابه الحسنة ومن خطبه التي ألقاها في مكة والمدينة.

وصل إلى بلاد الحجاز، ووافى الموسم، فاشتد قلق سليمان بن عبدالواحد بن عبد الملك الذي كان بمكة المكرمة عاملا من قِبل الخليفة الأموي، فأرسل إلى أبي حمزة يفاوضه إلى أن ينتهي موسم الحج، فأجابه أبي حمزة بقوله: «نحن أحرص الناس على حجنا» واستمسكوا بهذا الشرط، ولم يقوموا بأي عمل قتالي في أرض الحرم، بل لم يؤذوا أحدا في حرم الله تعالى، ولما انتهى الموسم خشي سليمان بن عبدالواحد فخرج من مكة المكرمة ولحق بأرض الخلافة. ودخل أبو حمزة مكة دون قتال، واستولى عليها، وخطب هنالك خطبا كثيرة؛ بيَّن فيها النهج الذي هم عليه سائرون، ثم بعد ذلك ذهب مع أصحابه إلى المدينة.

وكانت سياسة بني أمية إغراق أهل الحرمين الشريفين في الملاهي، والحرص على تمييع المجتمع بكثرة المطربين والمغنيين والمفسدين، وبعدما استمرأ أهل المدينة ذلك الفساد شق عليهم أن يغادروه إلى غيره، وينتقلوا من نمط تلك الحياة التي ألفوها إلى نمط حياة أخرى، نمط حياة الاستمساك بأهداب الاستقامة، ولذلك خرج عدد من المقاتلين يصل لثمانية آلاف مقاتل، وواجهوا أبا حمزة وأصحابه في (قُدَيْد) فحرص أبو حمزة على التفاوض معهم، ولكنه لم يجد من أهل المدينة استجابة، فأقام عليهم الحجة بكثير مما وجهه إليهم من الأسئلة التي أجابوا عنها بما يقيم الحجة على أنفسهم، ولكنهم لم يرتضوا بالتفاوض، فقال لأصحابه: دعوهم حتى يبدؤوكم بالقتال، وكان أصحابه لا يتجاوزون ألفا ومائة على أكثر ما قيل، فرمى أهل المدينة في جند أبي حمزة بسهامهم، وأصابوا أحدا من جنده، فقال: دونكم الآن، فقد حل قتالهم، فأصلت السيوف، وقاوموهم مقاومة عنيفة أدت إلى انهزام أهل المدينة، بعدما تركوا وراءهم آلافا من القتلى، وعادوا أدراجهم إلى المدينة المنورة.

ودخل أبو حمزة المدينة المنورة، وعليه قميص خلق وكساء صوف معتم بعمامة بيضاء وعلى عاتقه حمالة سيفه من ليف النخل، قال عيسى ابن عبدالحميد: لم أر أهيب من هيبة المختار في أحد من الأكابر وهو على تلك الحالة ولا وجها أحسن من وجهه. وبث في الناس دعوة الخير، ونعى أهل المدينة ما صاروا إليه، وكان مما قاله لهم في بعض خطبه التي وجهها إليهم: «يا أهل المدينة أولكم خير أول، وآخركم شر آخر، يا أبناء المهاجرين والأنصار نِعْمَ ما ورَّثَكم آباؤكم لو حافظتم عليه، وبئس ما تورثونه أبناءكم إن تمسكوا به». وذكرهم بأن بلادهم آوت رسول الله.

أما هزيمته الأخيرة على يد الجيش الأموي فتعود لضعف الإمكانات البشرية والمادية، فقد فقدَ كثيرا من جنوده في معركة قديد ولقوة المعارضة من أهل الحجاز وكثرة الجيش الشامي وكما يقال الكثرة تغلب الشجاعة. واستمر زحف جيش الجور والفساد حتى قضى على دولة الإمامة في اليمن وحضرموت وقتل الإمام طالب الحق، وباستشهادهم عاد الجور والفساد بعد فترة حكم قصيرة لم تتجاوز السنتين.

وخير ما نختم به، خطبته المعروفة، التي يعدها الأدباء من أعظم خطب العرب على الإطلاق، وأكثرها التصاقا بروح الدين وعفوية العربي، فلما دخل أبو حمزة المدينة فاتحا كان مما أشاعه أهل المدينة في أبي حمزة وأصحابه أن هؤلاء شباب أغمار (لم يجربوا الأمور) سفيهة أحلامهم، فلما شاعت هذه المقالة، وبلغت أبا حمزة، جاء إلى منبر النبي فوضع وجهه حيث ما كان النبي يضع قدميه، وبكى طويلا حتى خضب لحيته بالدموع قائلا:

آهٍ كم من قدم عاصية لله، منتهكة لحرماته، واطئة على أحكامه، وطئت موضع قدم النبي بأبي هو وأمي، ثم ارتقى درجة واحدة في المنبر تواضعا لمقام النبوة ومقام الخلافة الرشيدة وألقى خطبته التاريخية المعروفة.

«يا أهل المدينة، إنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا، ولا بطرا، ولا عبثا، ولا لهوا، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا لثأر قديم نيل منا، ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد أُطفئتْ، ومعالم العدل قد عُطلتْ، وضُرب القائم بالحق، وقتل القائم بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله -ومن لا يجب داعيَ اللهِ فليس بمعجزٍ في الأرض- فأقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على البعير الواحد، وعيه زادهم، يتعاورون لحافا واحدا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا الله، وأيدنا بنصره، وأصبحنا -والله المحمود- من أهل فضله ونعمته... وأيم الله يا أهل المدينة، إن تنصروا مروان وآل مروان فيسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، ويشف صدور قوم مؤمنين.

يا أهل المدينة:

الناس منا ونحن منهم، إلا مشركا عابد وثن، أو كافرا من أهل الكتاب، أو إماما جائرا..

يا أهل المدينة:

تعيرونني بأصحابي، تزعمون أنهم شبابٌ، وهل كان أصحاب رسول الله ـ إلا شبابا؟ نعم الشباب والله، مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الحرام أعينهم، بطيئة عن الشر أرجلهم، أنضاء عبادة، وأطلاح سهر، موصول كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم وركبهم من طول السجود، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من كثرة القيام وطول الصيام، لقد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، مستقلون ذلك في جنب الله، مستنجزون لوعد الله.

حتى إذا رأوا سهام الموت قد فوِّقت، ورماحه قد أشرعت، وسيوفه قد انتضيت، وبرقت الكتيبة ورعدت بصواعق الموت، استهانوا وعيد الكتيبة لوعد الله. فلقوا شبا الأسنة، وشائك السهام، وحد السيوف بوجوههم، وصدورهم ونحورهم، ومضى الشاب هنالك قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، فخر صريعا في الثرى ورملت محاسن وجهه بالدماء، وأسرعت إليه سباع الأرض وانحط إليه طير السماء، فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خشية الله، وكم من يد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها في سجوده لله، وكم من خَدٍّ عتيق قد فلق بعمد الحديد، فرحم الله تلك الأبدان وأدخل أرواحهم الجنان».