من يصنع صورة المجتمع؟!
يتغيَّر العالم من حولنا سريعًا، أكثر بكثير مما كان عليه الأمر قبل عقدين من الزمن. ويتغيَّر الوعي الاجتماعي الذي لم يعد نتاجا لتراكم التجارب اليومية كما كان في المجتمعات التقليدية، أو حتى قبل عقدين من الآن؛ إنه اليوم نتاج لهذا الكم الكبير من تدفق الصور والرموز والبيانات المكتوبة والمسموعة والمرئية التي تأتي عبر الفضاء الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي سواء كانت منتجة بشريا أو بتقنيات الذكاء الاصطناعي. هذا الأمر فرض على الناس العيش في فضاءين اثنين؛ مادي يتحرك فيه، وواقع رمزي يطوّقه ويعيش في أسره أينما التفت على شاشات المنصات الاجتماعية.. وغالبا ما يصدّق الثاني أكثر من الأول. هذا الأمر يخلق التباسا كبيرا تنتج عنه أزمة أكبر، وهي من يملك سرد الواقع، ومن يملك تعريفه؟ لأن من يملك ذلك يستطيع أن يملك المجتمع.
تعمّق هذه الأزمة حالة الاغتراب التي تعيشها بعض المجتمعات، بين واقعها الحقيقي وبين ما تحاول أن تعيشه عبر إسقاط الواقع الذي تشاهده في وسائل التواصل، وهو واقع أقرب إلى الوهم، ويتصف بالهشاشة لأنه لم يبنَ وفق التجارب الحياتية اليومية ولا على تراكم طبيعي أو تفاعل حياتي.
المشكلة أن الغالبية العظمى تسير في هذا الاتجاه، ولا يكاد يوجد موقف نقدي يقف في وجه هذا التيار، ولا تجد الدعوات التي تصدر من هنا وهناك سواء عبر الخطب السياسية أو المنابر الدينية والثقافية ما يعينها من خطاب نقدي اجتماعي يفرزه المجتمع ليعيد صناعة وعيه الاجتماعي بناء على منظومة قيمه وتفاعلاته الطبيعية ونقاشاته العقلية بعيدا عن العاطفة التي غالبا من تكون سطحية وتفتقر إلى العمق الناتج عن التجارب والمنطق.
وفي وسط هذا المشهد غالبا ما تغيب المسافة بين الرأي والمعلومة/ الخبر، وبين الموقف والمعرفة، وهنا بالتحديد يتسع المجال لما يمكن تسميته بـ«الوعي العاطفي» الذي يسهل توجيهه وتضخيمه.
هذا النمط من الحياة آخذ في الاتساع في العالم أجمع وإن كان في بعض المجتمعات يلقى بعض النقد والتحليل والدفع به ثقافيا نحو مساحات آمنة، فيما يغيب هذا، تقريبا، عن المجتمعات العربية رغم رصيدها القيمي والمعرفي.
إن أكثر ما يثير القلق من هذا النمط الحياتي، الذي يصنع وفق الحياة الافتراضية، هو هشاشة هذا الواقع والوعي الذي يصنعه. فالصورة الافتراضية للمجتمع تُبنى في لحظة، ويمكن أن تهتز أو تُمحى في لحظة أخرى. ومن يتابع ما يحدث على منصات التواصل الاجتماعي بدقة يكتشف أن الكثير من القضايا التي تشغل تلك المنصات لأيام طويلة تنتهي دون أن تترك أثرا في الواقع، في الوقت نفسه تمر تحولات اقتصادية وثقافية كبرى في هذه المجتمعات دون أن تلقى انتباها مكافئا لأنها لا تصلح لأن تكون «ترند». هذا الأمر يصنع وعيا متقطع الذاكرة، وسريع الانفعال، وأيضا، هشّ الصلة بالفعل الاجتماعي الحقيقي.
رغم ذلك فإن التعويل على قوة المجتمعات ما زال كبيرا؛ فالكثير منها، كما هو الحال مع المجتمع العماني، تحتفظ بقدر كبير من الاتزان والقدرة على استيعاب التغيير. وتدرك هذه المجتمعات أن الواقع أكثر تعقيدا وثراء من أن يختزل في نقاشات تنقصها المسؤولية والجدية وتسيطر عليها الانفعالية والعاطفية على وسائل التواصل الاجتماعي.
والوعي الاجتماعي الحقيقي لم يكن في يوم من الأيام نتاج ضجيج المنصات كما تثبت التجارب. إنه ثمرة الحوار والعقل وتراكم المعرفة. بهذا المعنى فإن دور وسائل الإعلام في الوقت الحالي يتجاوز فكرة نقل الأحداث إلى بناء وعي نقدي قادر على تمييز الحقيقة من الانفعال، والجوهر من الاستعراض. ومن دون هذا الوعي، يبقى المجتمع عرضة لصورة يصنعها آخرون عنه، لا تعكسه بقدر ما تشوّه ملامحه وتسطّحه وربما تتلاعب به.
