ماذا ينقص العرب لصياغة مشروع حضاري؟
تبدو فكرة المشروع الحضاري في السياق العربي وكأنها سؤال لم يُطرح بما فيه الكفاية، أو ربما لم يعد يطرح بعد أن ذهب الذين تبنوه منذ عقود مضت. ومع كل تحول عالمي كبير، يتضح كم هو مكلف أن تظل أمة بحجم الأمة العربية بلا تصور حضاري لمستقبلها.
وكلما ازداد تسارع التحولات العالمية، اتسعت الفجوة بين تطلعات الشعوب العربية وبنية النظام الذي يحكم مصائرها، ما يعكس عمق الأزمة البنيوية القائمة. والأمة الديناميكية لا يمكنها أن تكتفي بتدبير شؤون حاضرها دون أن تساءل نفسها: ما الدور الذي تريد أن تلعبه في العالم؟ ما الفكرة التي تبرر وجودها في خارطة الأمم؟ وما الغاية التي تشكّل بوصلة لاختياراتها السياسية والاقتصادية والثقافية؟
لم تعد القوة الصلبة كافية وحدها لضمان الاستمرارية أو التأثير في النظام الدولي؛ بل أصبحت المشروعات الحضارية الكبرى هي التي تحدد مكانة الدول وقدرتها على إعادة إنتاج ذاتها. رغم ذلك فإن الأمم التي تموضعت بثبات في النظام الدولي هي تلك التي استطاعت بناء مشروع حضاري يتجاوز اليومي، ويجمع بين الرؤية طويلة المدى والقدرة على إنتاج سردية مقنعة عن الذات والعالم.
الصين أعادت تعريف علاقتها بالعالم عبر مشروع الحزام والطريق. الولايات المتحدة حافظت على سردية القيادة الليبرالية، باستثناء مرحلة ترامب التي تبدو عارضة أكثر من كونها تحولًا استراتيجيًا. تركيا استدعت العثمانية كمورد رمزي في خطابها التوسعي الناعم. إيران تبني نفوذها من خلال سردية المقاومة الثقافية والأيديولوجية. كلها محاولات لصناعة دور يتجاوز الجغرافيا.
في المقابل، تبدو الأمة العربية، برغم كثافة التحديات وغنى الإمكانات، بلا مشروع جامع متفق عليه من الجميع. هناك مبادرات اقتصادية واعدة، واستثمارات استراتيجية في التعليم والتكنولوجيا في بعض الدول، لكن هذا لا يعوّض غياب رؤية حضارية تستند إلى تصور متكامل حول مكانة العالم العربي في المستقبل.
المعضلة المركزية في العالم العربي لا تكمن فقط في نقص التصورات، بل في غياب الإيمان الجمعي بإمكانية التغيير الحضاري. وهذا الغياب هو ما يجعل من سؤال المستقبل العربي سؤالا إشكاليا لا يقود إلى أفق محدد، ولا يملك شروط التحول إلى مشروع. ولا تلوح في الأفق ملامح تصور عربي موحد، أو حتى تعددي، قادر على إعادة صياغة موقع العرب ضمن النظام الدولي الجديد، ويستطيع أن يجيب على سؤال من قبيل: ما الذي نريد أن نكونه بعد 20 عاما؟ ما المشروع القادر على نقل الأمة من واقعها المأزوم إلى حالة جديدة يتغير فيها موقع الفرد العربي؟ وأين الخطاب الذي يمكن أن يمنح الأجيال الجديدة سببا للاعتقاد بأنهم ليسوا مجرد امتداد للدولة القُطرية؟
والأزمة ليست فقط في الانقسام السياسي أو الاختلافات الاقتصادية بين الدول العربية، بل في غياب «العقد الحضاري» الذي يمنح للسياسات معناها، وللثقافة وظيفتها، وللدولة مشروعها. ذلك العقد الذي يستطيع أن يربط التنمية بالهُوية، والحداثة بالخصوصية، والانفتاح بالكرامة الوطنية.
ما الذي يمكن أن يشكل نواة هذا المشروع؟ قد تكون اللغة العربية ـ التي ما زالت من بين أكثر اللغات انتشارا وأكثرها عمقا ثقافيا ـ هي الرافعة المركزية للمشروع. وقد يكون التاريخ المشترك ـ ليس في معناه الرومانسي، بل بوصفه مادة نقدية وتحليلية ـ نقطة انطلاق لتأسيس فهم مشترك للذات العربية. كما يمكن أن تسهم التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي والطاقة المتجددة في إعادة بناء المكانة العربية على أسس حديثة، بعيدا عن الارتهان للموارد التقليدية أو للتموضعات الجيوسياسية القديمة.
لكن أي مشروع، ليولد ويترسخ، يحتاج إلى مؤسسات تفكر، ونخب تتحاور، ومجتمعات تُشرك في القرار لا تُقصى منه. ويحتاج قبل ذلك إلى الجرأة في إعادة طرح الأسئلة المؤجلة، دون خشية من كشف الفراغات الكثيرة والمتراكمة عبر التاريخ.
لن يكون الطريق سهلا، لكن الصمت عن السؤال أخطر من صعوبة الإجابة. وقد تكون إعادة طرحه هي الخطوة الأولى لاستعادة موقع العرب كفاعلين، لا كمن يُملى عليهم موقعهم في العالم.
وربما حان الوقت لإعادة صياغة سؤال المشروع العربي، ليس فقط باعتباره طموحا ثقافيا، ولكن أيضا بوصفه ضرورة استراتيجية في عالم لا يمنح مكانا لمن لا يعرف موقعه.
