No Image
رأي عُمان

كيف نحمي المجتمعات من الشعبوية؟

16 ديسمبر 2025
16 ديسمبر 2025

لا تكتفي الشعبوية في العالم اليوم بإقناع الناس بخيار سياسي أو مسار اجتماعي، إنها تقوم بتغيير طريقة فهم الناس للعالم، وبتغيير مسارات الحقيقة وتحويل المعرفة إلى ساحة خصومة. وفي ظل هذا المشهد لا يصبح اختلاف العالم على الوقائع، إنما حول من نصدق؟ وكيف نعرف ولماذا نعرف؟

لا تتسلل الشعبوية عبر الأصوات المرتفعة، لكنها تدخل من باب بسيط، «نحن» في جهة، و«هم» في جهة، و«الشعب الحقيقي» و«النخبة الفاسدة» التي تصفها الشعبوية غالبا بالانفصال عن الواقع. تتحول هذه التقسيمات مع الوقت إلى قناعات تسقط على الأزمات والتحديات اليومية فكل تحدٍ وراؤه النخبة الفاسدة سواء كانت نخبة سياسية أم اقتصادية أم حتى نخبة ثقافية/ فكرية. وتفقد السياسة في هذا المناخ قدرتها على حل التعقيدات وتتحول إلى سبب للخلاف والغضب.

والخطر الأكبر في هذا المسار أن هذه التقسيمات وما شكلته من قناعات تتحول إلى ممارسات يومية تساهم في صناعة «مجتمع معرفي» جديد يملك معايير مشتركة تقريبا في قراءة المعلومات والحكم عليها وتفسيرها. وتصبح هي التي تستطيع، فقط، أن تحدد من هو الخبير ومن هو المأجور، ما هو الدليل وما هو الخداع والتضليل. وتعيد إنتاج ذلك كل يوم، في الحديث، وفي التعليق، وفي إعادة النشر، وفي السخرية، وفي التشهير.

يبدأ الأمر في الغالب من سياق لغوي، حيث يتم إضعاف اللغة التي تشرح، وتستبدل بعبارات قاطعة لا لبس فيها أو شك، حيث يتم تمجيد «الحدس» و«الإحساس» ويعلى من شأن الصور النمطية. ثم تأتي المرحلة الثانية المتمثلة في الأداء. لا يستطيع الكثير من الشعبويين برهنة الحقيقة فيعمدون إلى محاولة تمثيلها. يتحدثون بثقة كبيرة ويتصرفون وكأنهم يقولون ما يعرفه الجميع، يكررون الجملة نفسها حتى تصبح مألوفة، ثم تصبح «واضحة».. وفي السياسة، مع الأسف، يعامل المألوف كما لو كان صحيحا فعلا.

وفي المرحلة الثالثة تقوم المنصات الإلكترونية بتسريع كل شيء وتهتم وتعلي من شأن كل ما يثير الانفعال. ولذلك يخسر الخبر الذي يريد سياقا، وتتأخر الفكرة التي تحتاج إلى شرح.. بينما ينتشر المنشور الذي يتبنى مسار الهجوم. تساهم هذه المعادلة في بناء الفقاعات التي تحجب المعلومات الدقيقة وتعيد ترتيب العالم داخل الرأس؛ فيرى العالم صورة واحدة للأحداث ثم يظنون أنها الصورة الكاملة. وحين تُحاصر الحقيقة داخل فقاعة، يصبح الخروج منها مكلفا نفسيا واجتماعيا. فيضطر حتى بعض الباحثين الجادين في بعض البيئات لمجاراة موجة منصات التواصل الاجتماعي حتى لا يتم استهدافهم.

في هذا المشهد وسياقه تتورط النخب حين تختار الطريق الأسهل من خلال شيطنة خصومها بدل إقناع الناس، ويكتشف بعض السياسيين أن مهاجمة المؤسسات أسهل بكثير من إصلاحها. ثم إن بعض المنابر يتم استدراجها في سباق الإثارة وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الشخصيات بما في ذلك بعض المفكرين والسياسيين.

تساهم بعض النخب المتخصصة عبر اللغة المغلقة والمتعالية في تجاهل الجمهور، ويلومونه أنه لم يفهمه.. هذا يزيد الأمر سوءا، حيث تزداد الشعبوية قسوة، وتزداد النخب تعاليا أو حتى ذعرا، ويفقد الناس قدرتهم على التمييز والتفكير.

وأمام كل هذا يختلط المشهد ويتعقد وتتنوع نتائجه بين السياسية والأمنية والاجتماعية ويتم مهاجمة الخبراء إلى حد يصبحون فيه محاصرين ومنبوذين. وفي الوقت الذي يعمد فيه إلى مهاجمة هؤلاء بما يملكونه من خبرة وتجربة تتراجع قدرة الدولة على اتخاذ القرارات الحكيمة والمناسبة، وحين تُستباح الحقيقة، يصبح التضليل هو السائد. ثم إن المجتمعات تبدأ في التشظي والتشقق من الداخل وإن بدت متحمسة من الخارج.

وليس من السهل الخروج من هذا المشهد الذي بدأ يسود الكثير من دول العالم والمجتمعات الشرقية والغربية والمؤسسات الجامعية.. ولكن من المهم أن يكون هناك إصلاح عميق لشروط المعرفة في المجال العام. وتبدأ الخطوة الأولى من التعليم عندما يعود التفكير النقدي إلى المدارس والجامعات بوصفه مهارة يومية، وأن تتعلم هذه الأجيال كيف تفرق بين الدليل والانطباع، وبين الخبر والتحريض. والخطوة الثانية هي تحصين الجامعة عبر استقلال أكاديمي واضح، وتفتح أبوابها للناس بلغة مفهومة بعيدة عن التعالي. وعلى المنابر الثقافية والإعلامية وجميع المنصات تحمل نصيبها من خلال تبني سياسات نشر أكثر شفافية، وإعلاء قيمة التحقق بدل سباق الإثارة السائد اليوم.. لا بد أن يصل الناس إلى حقهم في معرفة ما هو الصحيح قبل أن يصبح الصحيح مجرد ما يرضي السياق العام.