ما الذي تعلّمه التجربة العمانية للعالم عن الحكم والشرعية؟
يعيش العالم اليوم حالة مخاض عسير في إعادة تشكيل نظامه الدولي. من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي، ومن الشرق الأوسط إلى قلب العواصم الغربية، تتهاوى أسس النظام القديم، ويُختبر مفهوم الديمقراطية والشرعية أمام الشعوب التي باتت أكثر قلقا وأقل ثقة في مؤسساتها مما كان عليه الأمر في أي وقت مضى خاصة في الدول الغربية التي كانت تعتقد أن أنظمة حكمها هي الأفضل على الإطلاق. والغرب الذي صدّر فكرة «النظام الليبرالي» يجد نفسه مضطرا إلى إعادة النظر في ديمقراطياته، في وقت تصعد فيه الشعبويات بشكل ملفت وغير مسبوق.
ولكن وسط هذا الاضطراب العالمي، وهذه الأسئلة التي تشغل الرأي العام العالمي، ثمة تجارب تستحق التوقف عندها، ومنها التجربة العمانية. إن ما يميز سلطنة عُمان ليس أنها تعيش بدون تحديات أو حتى مشاكل فهذا أمر لا يمكن أن يحدث في السياقات البشرية.. ولكن ما يميز التجربة العمانية أنها تصوغ لنفسها مسارا يكاد يكون مختلفا في الحكم والشرعية، وهو مسار يستمد جذوره من ١٣ قرنا من التقاليد السياسية والاجتماعية التي بلورها العمانيون وتحولت إلى مسار سياسي راسخ. لكن هذه الخلفية الطويلة من التقاليد المستمدة من عمق التاريخ العماني لا تعني بأي حال من الأحوال الجمود، والحقيقة التي تخفى على أحد أنها وفرت أساسا متينا لبناء نظام سياسي حديث يتكئ على خبرة تاريخية عميقة في التوازن بين السلطة والمجتمع.
هذا المزيج ظهر الأسبوع الماضي بشكل جلي حينما كان حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ يتنقّل من ولاية إلى أخرى، ويقود سيارته بنفسه ليطلع عن قرب على المشروعات التنموية في مختلف الولايات، ويقف بنفسه، أعزه الله، على احتياجات المواطنين، ويتابع تفاصيل العمل المنجز والتحديات التي تقف أمام المشروعات وخطط التنمية. هذا الأمر يحمل رسالة عميقة ليس عن شخص سلطان البلاد فقط، ولكن عن نظام الحكم في سلطنة عمان الذي يقوم على مفهوم العدل والمساواة والنظر للمواطنين باعتبارهم شركاء حقيقيين في مشروعات التنمية، وحيث تُقدَّم الدولة باعتبارها أداة لبناء الإنسان قبل أن تكون مجرد سلطة.
وإذا كانت سلطنة عمان تبذل جهودا كبيرة في السياق الدولي من أجل أن يكون هذا العالم أكثر أمنا وأكثر سلاما وعدلا فإنها في الوقت ذاته ترسخ فكرة أن الشرعية السياسية تُكتسب من القرب من الناس والإنصات لهم ومن العدل والمساواة واحترام حقوق الناس وكل هذه القيم راسخة في بنية الدولة العمانية. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الجولة التفقدية الكريمة التي قام بها جلالة سلطان البلاد تؤكد نقطة مهمة جدا أن فلسفة الحكم في عمان لا تنظر إلى التنمية عبر المؤشرات الاقتصادية، إن الأمر يتجاوز ذلك إلى رؤية أعمق بكثير يتم فيها التعويل على الثقة المتبادلة بين الحاكم والمجتمع. هذا لا يعني أن عُمان خالية من التحديات، ولا يمكن تصور دولة بلا تحديات في كل العصور، ولكن عندما لا تكون التحديات مفتعلة أو ضمن سياق سياسي له أهدافه فإنها قابلة للحل خاصة في دولة تثبت للجميع أنها تعمل بجد من أجل تجاوز التحديات ومن أجل بناء رخاء حقيقي للمواطن يتسم بالديمومة والاستمرارية والقدرة على التكيف مع مختلف التحديات.
لا تدعي التجربة العمانية أنها بديل شامل لحالة التشظي والانكسار التي يمر بها العالم، لكنها تُظهر أن الحكم الرشيد يمكن أن يتجذر في مزيج من التاريخ والثقافة والقيم الإنسانية الراسخة والمتفق عليها في السياق الإنساني.
ورغم أهمية السياق التاريخي والثقافي لا يمكن أن نقلل من أهمية القيادة نفسها، وتثبت الأحداث أن شخصية جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ شخصية استثنائية تملك كل مقومات القيادة في الأزمات، وهي شخصية تملك القدرة على أن تلهم أمة بأكملها مثل الأمة العمانية لتتجاوز كل التحديات التي قد تمر بها نتيجة كل ما يحدث في العالم من تحولات واضطرابات ومخاضات عسيرة لبلورة عالم جديد بنظام جديد وقيم مختلفة.
حفظ الله عُمان وجلالة السلطان.
