لن تموت الحقيقة وإن قُتل حاملها
في جنوب غزة، وبالتحديد في مستشفى ناصر الذي يعده المدنيون هناك الملاذ الأخير لهم، ارتكبت إسرائيل أمس إحدى أبشع جرائمها، وكل جرائمها في هذه الحرب بشعة جدا ولا يمكن نسيانها أو تجاوزها. استهدفت إسرائيل الطابق الرابع من المستشفى، وحين هرع المسعفون والصحفيون على أمل الحصول على ناجين حاملين معهم العدسة والحقيبة الطبية ليحملوا الحقيقة والشفاء في آن واحد وجدت إسرائيل في المشهد فرصة لا تفوت فاستهدفتهم مرة أخرى. أودت الجريمة إلى استشهاد 20 فلسطينيا بينهم خمسة صحفيين دفعة واحدة حملوا عبء نقل الحقيقة، وفي طياتها ما يكمن من أمانة كانت تنازع الموت ليتحقق بساط العدالة.
لا يتسع الكلام أمام صور الحياة التي تسطرها كاميرات أولئك الصحفيين: مريم أبو دقة التي غطت الجوع بأسلوب لا يتوسل أبدا العاطفة السفلى بل يُظهر البشاعة التي على العالم أن يراها بشكل واضح. وحسام المصري بثّ مباشر للحياة والدماء معا، ولم يكتفِ محمد سلامة بالتغطية بل تحول صمته إلى صرخة حين اخترقه الرصاص.. لم يسقط الجسد فقط بل سقطت عنده الحقيقة التي كان يحرص على نقلها للعالم.
وإذا كانت دولة الاحتلال أمام ردود الفعل العالمية التي أخجلها المشهد المنقول على الهواء مباشرة، قد عبرت لهم عن أسفها فلا قيمة تذكر لهذا الأسف بعد أن تحول المستشفى إلى مدفن للجثث كحال باقي المستشفيات في القطاع، ولا قيمة للأسف عندما تكون الجريمة قد حدثت بتخطيط ووعي تامين، ولا قيمة للأسف عندما يكون المجرم ممعن في جرائمه منذ عامين ولا يفكر في التوقف. ولا قيمة لأي لجنة تحقيق ينوي الكيان تشكيلها إذا كانت نتائجها ستدفن كما تدفن العيون تحت الركام منذ عامين كاملين، ولا قيمة للتحقيق في وقت تُنسى فيه الوجوه الحية التي تموت ألف مرة وهي ترى مسار الإبادة الجماعية وهو يقترب منها رويدا رويدا.
هذه ليست حربا فقط؛ إنها حالة إبادة ممنهجة. لا تستهدف «الصحفيين»، ولكنها تستهدف كل من يجرؤ على أن ترى عيناه ما لا يريد الاحتلال لك أنت تراه. إنها حرب على الإدراك، وعلى الضمير، وعلى ما يربط بين رابط البشرية. وأمام هذا الانهيار الكبير وهذه المشاهد التي تقطع الوجدان، نجد أنفسنا أمام سؤال آخر كبير جدا وهو هل يبقى للإنسانية أثر، إذا غاب الذين يحملونها بالكلمة، وبالعدسة، وبالسرير، فوق أرض محروقة بالكراهية والحقد والتآمر.
رغم ذلك فإن إسرائيل المنتشية بغرور القوة والدعم الغربي، رغم التباسه في الفترة الأخيرة، تكشف للعالم مرة أخرى حقارة حربها ودناءة أساليبها في استهداف الصحفيين والأطباء والمسعفين ما يسقط بتتابع ما بقي من صورتها وسرديتها التي رسمتها لعقود طويلة في الوجدان العالمي.
وإذا كانت آخر الملاذات التي توهم المدنيون في غزة أنها آمنة قد سقطت هي الأخرى فإن سقف السماء ما زال يتسع لهم حينما يمتد صوت أنينهم وبكائهم من الأرض إلى السماء، ولئن أعدم الاحتلال الصحفيين ونسفوا عدساتهم فإن عين الله ما زالت ترى كل شيء، ولن تفلت هذه الجرائم من حسابه ومن حساب الضمير الإنساني والعدالة التاريخية.
