عن أوهام الديمقراطية الضائعة
من يستطيع استعادة تفاصيل المشهد العالمي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وما صاحب ذلك من خطاب تبناه «المحافظون الجدد» في الولايات المتحدة الأمريكية هدفه الأول نشر الديمقراطية والحرية في العالم أو «الحرب من أجل الديمقراطية» كما كان يقول بوش الابن كل يوم وهو يوجه تهديده للشرق الأوسط وبشكل خاص للعراق، ويرى ويسمع حال الديمقراطية اليوم في العالم الغربي/ العالم، يعرف إلى أي حد كانت فيه تلك الخطابات فارغة ولا قيمة لها ولا عمق، ولا تعبر عن أي طرح أخلاقي أو قيمي يمكن أن يسهم حقيقة في تقدم العالم وسعادته كما خدع الكثيرون، سواء عن قناعة أم عن رُهاب سياسي قادم من الإدارة الأمريكية المتوحشة في ذلك الوقت.
كان المحافظون الجدد يعتقدون أنهم قادرون على نشر النسخة الأمريكية من «الديمقراطية» بقوة الدبابات، بعد أن وصلوا إلى يقين أن «الديمقراطية» تتجاوز فكرة النظام السياسي في الدول القطرية إلى كونها أداة أساسية للتشكيل والحفاظ على النظام العالمي. لم تدم تلك الخدعة/ الوهم طويلا حيث سرعان ما ظهر التناقض واضحا في العراق، فلم يستطع أحد أن يستوعب كيف يمكن لمفهوم الحرية أن يولد من رحم الاحتلال، وكيف يمكن لمشروع أخلاقي أن يُبنى على أنقاض المدن المحروقة؟
بعد عقدين من تلك اللحظة، يبدو المشهد العالمي وقد انعكس رأسا على عقب. لم تعد الديمقراطية ذلك المشروع الطموح الذي لا بدّ أن يصدر للعالم، ولكنها تحولت لسؤال مقلق داخل حدودها ذاتها. وتكثر الأصوات اليوم التي تتحدث بشكل صريح عن التراجع الكبير للديمقراطية في العالم، وفي العالم الغربي بشكل خاص، فيما تحذر أخرى من التآكل البطيء الذي يفرغ الديمقراطية من مضمونها ويترك قشرتها الخارجية توحي بوجودها وقوتها وهيمنتها.
وإذا كانت هناك مؤسسات غربية صامدة في مسار الديمقراطية وتجسد صورتها البراقة والغرية للعالم، وحركات اجتماعية ترفع صوتها بالقول إن الديمقراطية أبعد بكثير من فكرة صناديق الاقتراع، فإن هناك مسار انحدار واضح للديمقراطية يتجلى في السلطويات المتخفية داخل أشكال انتخابية، وفي السياسات الشعبوية التي ترفع راية الشعب بينما تضيق على حرياته!
المشكلة في موضع الديمقراطية ليست تقنية أو إجرائية ولكنها أخلاقية وفي جوهر الديمقراطية. فلم تعد الديمقراطية التي وعدت العالم بأنها قادرة على إنقاذه وإسعاده وإنصافه قادرة على حماية نفسها أو حماية الآخرين. وإذا كانت الديمقراطية تُختبر في اللحظات الأخلاقية الكبرى فإن غزة هو امتحانها الأخطر والأشد مرارة على تاريخ الديمقراطية خاصة في الشق الأخير من الامتحان وهو امتحان التجويع بقرار سياسي ما زالت أغلب الديمقراطيات الغربية متواطئة فيه. والسؤال الأبسط الذي يمكن لأي طفل فلسطيني أنطقه الجوع أن يصرخ به: إذا كانت الديمقراطية تعني الدفاع عن حقوق الإنسان، فلماذا تعجز عن ترجمة هذه القيم حين يتعلق الأمر بفلسطين؟ لماذا يموت أطفال فلسطين جوعا إذا كانت الديمقراطية تحمي حقوق الأطفال وحقوق النساء والمدنيين؟!
جوهر الديمقراطية ليس في السعي وراء المؤشرات التي تقيس مستواها ولا في صناديق الاقتراع التي توجهها اليوم الخوارزميات المسيطرة على عقول البشر ولكن جوهرها في الجانب القيمي، في قدرتها على حماية حقوق الناس، وفي العدالة.
وبهذا المقياس فإن الديمقراطية في العالم لا تتآكل فقط ولكنها تتلاشى وتظهر الكثير من الأنظمة التي قدمت نفسها باعتبارها حامي الديمقراطية والعادلة توحشها وجبروتها. وهذا يقضي على الكثير من المنجزات الإنسانية في العالم معرفة وقيما وفنا وإبداعا.. وهذا شكل مؤلم ومرعب من أشكال انهيار العالم.
