عُمان تستثمر في المستقبل لا في الصورة والإبهار
07 سبتمبر 2025
07 سبتمبر 2025
لا تقاس نتائج المشاركة في المعارض الدولية بالقدرة على الإبهار اللحظي سواء في الديكورات أو في العروض رغم أهمية كل هذا، ولكن في الأثر الذي يمكن أن تتركه أي مشاركة بعد انتهاء المعرض، مثل الاستثمارات التي استطاع المعرض التسويق لها أو جلبها، والشراكات مع الشركات الكبرى، وتوسيع شبكات المعرفة.
هذا الموضوع يناقش عالميا اليوم في كثير من دول العالم المشاركة في معرض إكسبو أوساكا في اليابان. فاليابان قبل معرض إكسبو هي محطة مهمة من محطات العالم في صناعة المعرفة وصناعة التقنيات؛ ولذلك هي سوق عالمي جاذب بدون ضجيح، فما بالك في اللحظة التي يجتمع العالمي فيها في مدينة يابانية، وكلٌّ يعرض تقنياته وممكناته الاقتصادية والمعرفية والثقافية.
بهذا المعنى تبدو مشاركة سلطنة عمان في المعرض الذي ما زال مستمرا وفي ذروة تألقه اختبارا حقيقيا لقدرتها على تحويل حضورها في مثل هذا المعرض العالمي إلى رافعة اقتصادية وثقافية، لا إلى عرض عابر في سباق الاستعراضات والإبهار اللحظي.
يواجه الاقتصاد العُماني مرحلة دقيقة؛ إذ يتعيّن عليه أن يوازن بين الاعتماد على صادرات الطاقة التقليدية المتمثلة في النفط والغاز، وبين رهانه الاستراتيجي على مشاريع الهيدروجين الأخضر، والموانئ البحرية، والصناعات اللوجستية والسياحية. من هنا يصبح معرض إكسبو منصة طبيعية لإبراز هذه الرهانات أمام أسواق شرق آسيا. فاليابان -على سبيل المثال- التي تبحث عن بدائل طاقة آمنة وموثوقة تمثل سوقا مثاليا لتقديم المشاريع العُمانية في مجال الطاقة المتجددة، وسلاسل الإمداد المرتبطة بها. وإذا نجحت المشاركة العمانية في استقطاب شركات يابانية إلى استثمارات مشتركة فإن المعرض يكون قد أدى دوره الاقتصادي الكامل.
لكن الاقتصاد ليس وحده المعني بالحضور في معرض بحجم «إكسبو أوساكا»؛ فالثقافة العُمانية -بتاريخها العريق، وموروثها البحري، وفنونها، وبسياستها التي بات يعرفها الجميع- تشكّل مجتمعة أحد أهم عناصر القوة الناعمة. يحدث ذلك عبر استدعاء الكثير من الرموز الثقافية التي يمكن النظر إليها في هذا السياق باعتبارها جسورا حضارية إضافة إلى أنها رسالة استراتيجية؛ فالزائر اليوم للمعارض يبحث كثيرا عن البعد الرمزي في كل ما يراها. ويهتم الزائر الياباني -على سبيل المثال- بالمنتجات ذات القصة الحضارية أو العمق الثقافي. والأرقام العالمية تشير إلى أن الاقتصاد الإبداعي العالمي يزداد قيمة بقدر ما يربط السلع برواياتها أو سياقها الثقافي. وتملك سلطنة عمان معينا كبيرا في ربط كل منتجاتها وكل فنونها وتاريخها وتراثها بقصته الثقافية والحضارية، وهذا في مجمله يساعد أيضا في بناء السردية الوطنية التي نحتاج إلى تدوينها في عُمان. أما موضوع تحويل التراث والمنتج الثقافي إلى قيمة مضافة اقتصادية؛ فإن الدولة تسير بشكل جيد في هذا المسار، ولكن الأمر يحتاج إلى المزيد من الجهود الجماعية.
في المجمل لا يقاس نجاح مشاركة سلطنة عُمان في معرض إكسبو بعدد الزوار رغم أن الأرقام كبيرة جدا، ولكن النجاح الأكبر والأبعد يقاس بعدد الصفقات التجارية الموقعة أو المتوقعة، وبمذكرات التفاهم التي تتحول مع الوقت إلى مشاريع قائمة، وببرامج التبادل الثقافي المتجذّرة، وبحملات الترويج المستمرة داخل السوق اليابانية حتى بعد إغلاق المعرض. وقد أوضحت التجارب السابقة لدول أخرى أن العائد يتبدد سريعا إن لم تُبنَ آليات متابعة واضحة، تبدأ من الجناح، وتنتهي بمؤسسات الاستثمار والثقافة داخل البلاد.
ما ننتظره من المرحلة المقبلة إذا هو الانتقال إلى مرحلة الحصاد المتمثلة في عقود في مجال الطاقة النظيفة، وشبكات شراكة أكاديمية في مجالات الطب الرقمي والذكاء الاصطناعي، وتوسيع دائرة التبادل الفني؛ لتعزيز صورة عُمان باعتبارها جسرا ثقافيا بين الخليج وآسيا. وإذا ما تحققت هذه الأهداف فإن مشاركة سلطنة عمان في أوساكا ستكون قد تجاوزت دور «العرض»؛ لتتحول إلى سياسة اقتصادية وثقافية ذات أثر طويل الأمد.
المرحلة الحاسمة تبدأ بعد انتهاء المعرض؛ حين تتحول اللقاءات إلى عقود، والعروض الثقافية إلى برامج تبادل دائمة. عندها فقط يمكن القول: إن عُمان استثمرت بالفعل في المستقبل لا في الصورة.
