No Image
رأي عُمان

حين تتكلم الدولة بلغة واحدة

30 سبتمبر 2025
30 سبتمبر 2025

لا تُقاس قوة الإدارة العامة بعدد اللوائح والدورات والورش التدريبية، فهذا قد لا يملك تغييرا حقيقيا في الميدان، إنما المعول عليه هو قدرة الإدارة على تحويل العمل الحكومي من مساحات متباعدة إلى مشروع واحد يستطيع الناس أن يروا نتائجه ويلمسونها في حياتهم اليومية.

تسعى «المبادرة الوطنية للفريق الحكومي الواحد» التي تنطلق اليوم بمباركة سامية من حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- لتضع العمل الحكومي في سلطنة عُمان أمام اختبار مهم يتعلق بالثقافة قبل الهيكل، وبالغاية قبل الأداة. تبدو فكرة المبادرة بسيطة في ظاهرها ولكنها عميقة جدا في جوهرها. فليس سهلا أن تصل دولة إلى مرحلة تجعل فيها الجهاز الإداري لها يتحرك بوصفه فريقا واحدا، وأن يكتسب الموظف وعيا «رساليَّا» يجعله شريكا واضحا في صناعة أثر عام يتجاوز حدود وصفه الوظيفي.

تتمثل قيمة المبادرة في أنها تذهب مباشرة إلى أكثر المواضيع تحديا وهو موضوع بناء الوعي/ الذهنية، التي ترى الوظيفة غاية في ذاتها عبر صور ذهنية جاهزة في العادلة ولغة تبريرية في علاقتها بالمجتمع. تقترح المبادرة تغييرا كبيرا يعيد رسم وتشكيل هذه المعادلة. تبدأ المبادرة بحوالي 5 آلاف موظف في هذا العام على أن تشمل 200 ألف موظف خلال السنوات الخمس التي هي عمر المبادرة.

وتعمل المبادرة من خلال منظومة تنفيذية تبدأ بالورش القصيرة، والسفراء داخل المؤسسات، وفريق متخصص من الميسرين الذين يستطيعون توضيح وشرح المبادرة وآليات عملها وأهدافها.. إضافة إلى أدوات قياس واتصال مؤسسي مدروس ومحكم يوفر قاموسا واحدا بين مختلف المؤسسات. المبادرة بهذا المعنى هي محاولة وطنية كبيرة لبناء «لغة مشتركة للمنفعة العامة» تُدار بالمفاهيم والسلوك في الوقت نفسه.

ويتضح جوهر التحول في الأبعاد الأربعة التي تطرحها المبادرة: «أنا والوظيفة»، و«أنا والمجتمع»، و«أنا وعُمان»، و«أنا والعالم». يناقش البعد الأول سؤال الرسالة التي يحملها الموظف في وظيفته اليومية، فيما يربط البعد الثاني الوظيفة بمسؤولية المواطنة وخدمة الناس بعيدا عن النماذج الورقية. أما البعد الثالث فيفكك ما يمكن أن يكون «عزلة مؤسسية» لصالح خريطة وطنية للأثر تتكامل فيها المؤسسات مع بعضها البعض. وفي البعد الرابع يُفتح الجهاز الإداري للدولة على التعلم من العالم لا على تقليده، وعلى اغتنام الفرص قبل تعداد الصعوبات، ضمن قيم عُمانية واضحة.

يعتقد البعض أن تغيير الثقافة أمر بالغ الصعوبة ويحدث بشكل بطيء، وهذا صحيح؛ لكن البيروقراطية ليست قدرا، وبالإرادة يمكن تجاوزها وبناء ثقافة جديدة يعمل فيها الجميع ضمن فريق واحد ويتحركون بناء على أهداف كبيرة يسعون لتحقيقها.

تستثمر المبادرة في رأس مال الدولة الاجتماعي داخل الجهاز الإداري نفسه حيث الكثير من الطاقات المعطلة التي تتحرك بشكل غير متناسق ونماذج عمل لا تقترب من بعضها البعض وفي الكثير من الأحيان لا تفهم على بعضها البعض. ومن شأن مبادرة «الفريق الحكومي الواحد» أن يُعيد ترتيب العلاقة بين المركز وبين المركز والمحافظات، وبين السياسات والخدمات. وإذا نجحت هذه الروح في شقّ طريقها، سيستطيع المواطن أن يرى مؤسسة واحدة وليس مجموعة من النوافذ المتجاورة وذلك عبر خطاب يبني الثقة لا يستهلكها؛ ومسؤول يشرح ماذا تغيّر وكيف، بدل الاكتفاء بوصف ما ينبغي أن يكون.

لكن لا بد من الإشارة إلى أن معنى أن تتكلم الحكومة بلغة واحدة لا يعني بأي حال من الأحوال حجب النقاش ولكن توحيد الغاية، ويعني أيضا أن تستطيع المؤسسات تجاوز ما يمكن تسميته بـ«الأنا الإدارية» إلى «نحن الوطنية».. وحينها يصبح النجاح مشتركا، وتتقدم عُمان خطوة حقيقية في بناء عقد ثقة جديد بين الدولة والمجتمع.