No Image
رأي عُمان

ثقافة الصلح والتوفيق داخل المجتمع

26 أكتوبر 2025
26 أكتوبر 2025

ينظر البعض إلى الخصومة بين الأفراد داخل المجتمع الواحد باعتبارها قدرا لا فرار منه. لكن الحقيقة أن الخصومة ليست قدرا عندما تكون المجتمعات قادرة على إطفائها باستخدام الأدوات التي طورتها عبر الزمن بهدف حفظ العلاقات وصيانة السلم الاجتماعي قبل أن تأخذ بُعدًا فيه خصومة بذهابها إلى أروقة القضاء.

وعبر التاريخ استطاع المجتمع العماني أن يفرز أدوات للتصالح ويطورها وفق مقتضيات الحال حتى قبل أن تخرج للعلن ما يحفظ الجسور قبل الأفراد والأسر والمجتمع قائمة دون انقطاع ودون أي خدوش أو ندوب.

وتقول تجارب المجتمع إن هذا الطريق أثبت نجاحه حتى في ظل وجود مؤسسات للتقاضي تستحق الاحترام والتقدير ولكن مساراتها تترك بين المتخاصمين جروحا لا تندمل بسهولة إضافة إلى أن مساراتها طويلة وفوق ذلك لها تكلفة مالية باهظة في الكثير من الأحيان.

كان المجتمع العماني ينهي الخصومات التي تنشأ بين الأفراد وأحيانا بين الأسر والقبائل عبر المؤسسة الاجتماعية التي تعمل من أجل «التصالح» و«التنازل» وتطييب الخواطر وجبرها وسرعان ما تعود المياه إلى مجاريها بعيدا عن الدخول في مسارات القضاء والبحث في المحاكم.. فأعراف المجتمع مقدرة وموزونة وهي نتاج تفاعلات المجتمع وفهم ثقافته.

وفي العصر الحديث مع تعقد الحياة وكثرة تحدياتها ومع تزايد القضايا التي تأخذ طريقها إلى أبواب المحاكم رأت الدولة أن تشجع المجتمع على تفعيل أدواته في هذا الجانب فكانت القضايا، وما زالت، تعرض على الصلح قبل أن ينظرها القضاء، ومن ثم أنشئت لجان معنية «بالتوفيق والمصالحة» تنظر القضايا قبل أن ينظرها القاضي ويأخذ ما تصل إليه قوة حكم القاضي. وهذا الأمر ساهم في حل آلاف التحديات الناتجة في الأساس عن سوء فهم وتحكم الغضب وعن عدم قدرة الأفراد على الاستماع إلى بعضهم البعض بعيدا عن التأثيرات الخارجية.

لكن لا يجب أن ينظر إلى «الصلح» باعتباره بديلا عن المحكمة، لأنه في الحقيقة هو سياسة اجتماعية ووقائية لم تقحم على المجتمع إنما نشأت منه، وما زالت تساهم في تقوية المجتمع وحمايته من التفكك والتشظي نتيجة التحديات التي تواجهه ونتيجة تعقيدات الحياة المعاصرة.

ويرى الكثيرون أهمية تفعيل دور مكاتب المحاماة في شكلها الحديث من أجل أن لا تكتفي بدور «وكيل الخصومة»، وممارسة دور المستشار الذي يوازن بين الحق القانوني والمصلحة العملية وأن يشرح لموكله الكلفة الاجتماعية لكل قضية خاصة إن كانت منطلقة من خصومة اجتماعية يمكن احتواؤها.

إن المجتمع القوي هو الذي تسوده قوة التسامح ويكون قادرا على أن يقيم حوارات بين المتخاصمين فيه من أجل تجاوز أي سوء تفاهم، فأغلب القضايا ناتجة عن فهم ملتبس فيمن هو صاحب الحق وهذا يحتاج دائما طرفا ثالثا موثوقا في المجتمع.

وهذا الدور لا يقصي أبدا القضاء، ولكن يقيم معه شراكة حقيقية؛ فالمحكمة هي الملاذ الأخير للمتخاصمين عندما لا تفلح أدوات المجتمع في احتواء الخلاف، وهي حارس العدالة.. لكن لا ينبغي أن تكون بوابة الدخول الأولى لكل نزاع. والمجتمع الذي يحسن إدارة خلافاته هو مجتمع قوي، متحاب وقادر على التعاون والبناء. ولا بد أن يعمل الجميع من أجل تحويل أدوات الصلح وتقريب وجهات النظر بين الناس إلى ثقافة وسلوك فرد ومؤسسي أيضا.