الفن بوصفه مسارا حضاريا
أعلنت دار الأوبرا السلطانية مسقط موسمها الجديد 2025-2026 ببرنامج متنوع يضم خمسين عرضا يتراوح بين الأوبرا والموسيقى العربية والأوركسترا والباليه والجاز والفنون العائلية. غير أن ما يستوقف في هذا الإعلان أن يبدأ بعرض أوبرالي جديد بعنوان «سندباد.. البحار العُماني»، وهو عمل ضخم يعيد صياغة أسطورة عمانية في قالب عالمي، بما يضع الهوية المحلية على خشبة الأوبرا العالمية. وتستحق هذه الخطوة الثقافية المهمة التي أقدمت عليها دار الأوبرا السلطانية أن تقرأ بعيدا عن كونها إضافة للمشهد الثقافي العماني فهي، في الحقيقة، تأتي ضمن رؤية عالمية أوسع تجعل للفن مكانة محورية في بناء المجتمعات.
الفنون في جوهرها أحد أعمدة تشكيل الهوية الوطنية.. والحضارات الكبرى عبر التاريخ عرّفت نفسها بالفنون بقدر ما عرّفت نفسها بالسياسة أو القوة العسكرية. فلم يكن أحد أن يعرف مصر القديمة، على سبيل المثال، لو لم تترك أثرا خالدا على تلك المعابد والجداريات الضخمة في كل ربوع مصر، وأوروبا لم تدخل عصر النهضة لولا تحولات الفن والعمارة، والعالم العربي، نفسه، لم يُعرف عالميا إلا عبر مخطوطاته، وخطوطه، وموسيقاه والشعر الجاهلي الذي وقف العالم مندهشا من مستوى الفلسفة التي طرحها في تلك الفترة المبكرة من التاريخ. وحين تُستعاد الأساطير المحلية في عمل أوبرالي حديثة، أو حين تتجاور الأوركسترا العالمية مع الفرق العُمانية في أمسية واحدة، فإن في ذلك إعلان عن رغبة دولة في أن تُترجم ذاكرتها إلى لغة يفهمها العالم أجمع وتستطيع الوصول دون الحاجة إلى ترجمة.
لكن للفن بعدًا آخر يتجاوز الهوية إلى القوة الناعمة. ما فعلته كوريا الجنوبية في العقدين الماضيين من بناء مكانتها الدولية عبر الموسيقى والدراما والسينما مثال بارز على أن الفنون ليست مجرد مرافق ثقافية ولكنها أدوات استراتيجية. ولطالما أدركت فرنسا وإيطاليا وألمانيا أن الاستثمار في الفنون يوازي الاستثمار في السياسة الخارجية. وفي سلطنة عُمان فإن دار الأوبرا السلطانية تقوم بدور الجسر الدبلوماسي الثقافي الذي يربط مسقط بعواصم العالم، ويجعلها محطة للفنانين والفرق العالمية، ومكانا يلتقي فيه المحلي بالعالمي في خطاب حضاري مشترك.
غير أن الفنون لا تبني صورة الدول فحسب، بل تصوغ أيضا المجال العام داخلها. برامج الأوبرا السلطانية لهذا الموسم تتضمن حفلات مدرسية، وورشا تعليمية، وأنشطة لذوي الإعاقة، ما يعني أن الفن في رسالة دار الأوبرا ليس نشاطا نخبويا ولكنه ممارسة اجتماعية تُدمج مختلف الفئات. وحين تصبح الأوبرا ودار الفنون مكانا للعائلات والشباب والأطفال، فإن ذلك يخلق لغة مشتركة تُعيد للمجتمع مفهوم المجال الثقافي الذي يتقاطع فيه التعليم والذائقة والوعي.
هذا الدور يزداد أهمية في هذا التوقيت الذي يطغى على أولوياته الجانب الاقتصادي والأمني والعسكري. وتقدم الفنون بديلا؛ فهي تعزز رأس المال الرمزي، وتبني ثقة المجتمع بذاته، وتؤسس لرؤية طويلة المدى تتجاوز الأزمات المرحلية.
إن السؤال المطروح أمام الدول اليوم ليس ما إذا كانت تستطيع تحمل تكلفة الاستثمار في الفنون، بل ما إذا كانت تستطيع تحمّل تبعات إهمالها. التجارب التاريخية تثبت أن الأمم التي همّشت الفنون فقدت قدرتها على صياغة خطاب جامع وعلى تقديم نفسها للعالم. والعكس صحيح: الدول التي رأت في الفنون ركيزة حضارية استطاعت أن تحجز مكانها في التاريخ وأن تصوغ لنفسها صورة عالمية باقية.
من هنا، يمثل الموسم الجديد لدار الأوبرا السلطانية فرصة لتجديد النقاش حول موقع الفنون في المشروع الوطني. وهذا ليس احتفاء بالترفيه العابر بقدر ما هو خطوة لإعادة بناء الوعي الحضاري، وإدماج الثقافة في قلب التنمية الوطنية. فالفن، كما علمتنا التجارب الكبرى، ليس مرآة تعكس المجتمع ولكنه أكثر من ذلك، إنه أداة تعيد تشكيله وتفتح له مسارات جديدة في التاريخ.
