No Image
رأي عُمان

الصحة بوصفها جسرا للسلام

24 سبتمبر 2025
24 سبتمبر 2025

الصوت الأكثر ضجيجا في نيويورك هذه الأيام صوت السياسة، وحديث الحرب والسلم، ومحاولة المحللين قراءة ما وراء كلمات الرؤساء، ووضعها في سياق فهم مآلات الأمور خلال الأشهر القادمة. 

لكن هذا الصوت ليس الوحيد في نيويورك؛ فثمة أصوات أخرى تحاول أن تشعل شموعا من أجل البشرية في لحظة يبدو فيها العالم شديد الارتباك، وشديد التحول عن مسارات مضطربة جدا. 

ومن بين تلك الأصوات كان صوت سلطنة عُمان التي نظمت بالشراكة مع فنلندا وسويسرا والصومال والسودان واليمن حوارا دوليا بعنوان «الوحدة في العافية: تعزيز السلام من خلال الصحة العالمية»، وذلك على هامش الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة. بدا النقاش للوهلة الأولى تقنيا في مجال الصحة العامة، ولكن توقيته ومكانه يكشفان عن بعد سياسي وفلسفي أعمق يمكن أن يُقرأ من زاوية أن الطب يمكن أن يصبح لغة مشتركة في الوقت الذي تفشل فيه السياسة في الجمع بين مختلف الأطراف. 

وتبنّت سلطنة عُمان منذ سنوات ما يسميه المعلقون بـ«الدبلوماسية الصامتة» القائمة على الحوار والوساطة، والبحث عن القواسم المشتركة بدلًا من الاستقطاب. لكن إدماج الصحة في معادلة السلام يمثل نقلة نوعية؛ لأنه ينظر إلى أولويات المجتمع الدولي من زاوية مختلفة. فبدلًا من الاكتفاء بمراقبة انهيار النظم الصحية في مناطق النزاع؛ يمكن أن يكون الاستثمار في الصحة شرطا ضروريا وملحا لتعزيز الاستقرار على المدى الطويل. ومبادرة «الصحة من أجل السلام»، التي أطلقتها عُمان وسويسرا عام 2019 تحت مظلة منظمة الصحة العالمية تقدم اليوم إطارا مؤسسيا لهذا التفكير. 

وطرح سلطنة عُمان ليس شعاريا أو إعلاميا؛ فقد أثبتت التحديات الحديثة أن النظم الصحية الهشة تقوّض أي احتمال لإعادة بناء الثقة المجتمعية إضافة إلى ما ينتج عنها من أمراض وأوبئة ووفيات. فعلى سبيل المثال؛ فإن انهيار المستشفيات في السودان، واستهداف البنى الطبية في قطاع غزة، وعجز النظم الصحية في اليمن، تتجاوز كونها مآسي إنسانية. إنها قبل ذلك وبعده عوامل مضاعفة لهذه الحروب؛ ولذلك فإن الصحة محور أساسي في معادلة السلم والأمن. 

لكن من يتأمل هذا النهج يتبادر إلى ذهنه الكثير من الأسئلة التي تبدو صعبة مثل: كيف يمكن تحويل المبادئ المعلنة إلى التزامات قابلة للتنفيذ في مناطق تخضع لسلطة دول متوحشة، أو منظمات إرهابية، أو حتى حكومات لا تبدو معنية كثيرا بالجوانب الصحية؟ وكيف يمكن حماية الأطباء والممرضين من الاستهداف المتكرر، وهو ما أشار إليه ممثلو منظمة أطباء بلا حدود خلال الحوار؟ وإذا كانت مبادرة «الصحة من أجل السلام» قد نجحت في حشد الدعم الأممي فإن مصداقيتها ستقاس بقدرتها على إحداث تغيير ملموس، لا بمجرد إصدار بيانات. 

وهذه أسئلة مهمة جدا، ولا يمكن تجاوزها خاصة وأن كل هذه التجارب التي تكشف عنها الأسئلة تحدث الآن في غزة، وفي السودان، وتحدث في اليمن، وفي ليبيا، وفي أماكن كثيرة في العالم. 

رغم هذه الأسئلة الكبيرة فإن مبادرة سلطنة عُمان وسط ضجيج الأمم المتحدة تكمن في أنها تقترح مسارا مغايرا في زمن يبدو فيه النظام الدولي عاجزا عن إحداث أي تغيير إيجابي يمكن أن يقدم ضمانات حماية. فبينما تنغمس القوى الكبرى في صراعات النفوذ تطرح سلطنة عُمان نموذجا من نماذج القوة الناعمة عبر بناء أجندة عالمية أكثر إنسانية. هذا الدور يكتسب أهمية خاصة؛ لأن الأمم المتحدة نفسها تعاني أزمة ثقة، ويُنظر إليها في مناطق كثيرة كمنظمة عاجزة. وإدخال الصحة في صميم خطاب السلام يفتح مجالًا لإعادة ترميم هذه الثقة. 

تتجاوز الرسالة التي طرحتها سلطنة عمان من نيويورك حدودها الوطنية؛ فلا يمكن فصل السلام عن صحة البشر. وإذا أراد المجتمع الدولي أن يعيد لنفسه بعض المصداقية فعليه أن يتبنى هذه الرؤية، وأن يترجمها إلى سياسات تحمي الأرواح، وتبني الثقة، ولا يكتفي بالشجب والوعود. فالعالم كل العالم يئس من الشعارات، وهو في أمسّ الحاجة اليوم إلى جسور جديدة تعبر به فوق يأسه، وتبدأ من أبسط حق إنساني، وهو حق الصحة.