No Image
رأي عُمان

السودان بين حصار التجويع وعجز العالم

31 أغسطس 2025
رأي عمان
31 أغسطس 2025

منذ أكثر من عامين دخل السودان في حرب داخلية شرسة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حربٌ لم تقتصر على التنافس على السلطة في الخرطوم، بل امتدت لتعيد فتح جراح دارفور القديمة. ووسط مأساة دارفور هناك مدينة الفاشر التي تتصدر اليوم مشهد الإبادة الجماعية والحصار والتجويع. 

تُظهر تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان أن ما يجري في دارفور تجاوز فكرة الصراع المسلح التقليدي إلى حملة ممنهجة ذات طابع عِرقي تستهدف الماساليت وغيرهم من المجموعات، من خلال القتل الجماعي، والتهجير القسري، والعنف الجنسي الممنهج. في الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، وحدها، وثقت «هيومن رايتس ووتش» عمليات تطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية ارتكبتها قوات الدعم السريع وميليشيات متحالفة معها. هذه الوقائع دفعت مستشارة الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية إلى التحذير علنا أمام مجلس الأمن في مايو 2024 من أن «خطر الإبادة موجود في السودان، وهو حقيقي». 

وتعكس الأرقام حجم المأساة والكارثة التي لا تلقى الكثير من الاهتمام في التغطيات الإعلامية وبشكل خاص في العالم العربي. رغم أن هناك أكثر من 10 ملايين نازح داخليا، وفق تقديرات المنظمة الدولية للهجرة، ما يجعلها أكبر أزمة نزوح في العالم اليوم. وهناك نحو 24.6 مليون شخص يواجهون مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي، وفق برنامج الأغذية العالمي، بينهم ملايين وصلوا أو اقتربوا من المرحلة الخامسة، أي المجاعة الكاملة. وتشير تقارير برنامج الأغذية العالمي إلى أن بعض مناطق دارفور تعيش بالفعل ظروف مجاعة، في حين يُستخدم الحصار كسلاح عسكري مباشر ضد المدنيين في الفاشر. 

هذه ليست حوادث معزولة. النمط واضح جدا، حصار مدن رئيسية، وقصف متكرر للأحياء السكنية والمستشفيات، واستهداف للصحفيين والعاملين في المجال الإنساني، وعنف جنسي واسع الانتشار استُخدم كسلاح إذلال جماعي لإجبار المجتمعات على الفرار. ويتوافق مثل هذا السلوك مع مؤشرات الخطر التي حددتها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948. 

وقدم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إحاطات إلى مجلس الأمن، مؤكدا وجود أدلة على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، مع التركيز على أحداث الجنينة. ومع ذلك، ما زالت أوامر التوقيف محدودة، والتحقيقات تتحرك بوتيرة بطيئة لا تتناسب مع حجم الجرائم ولا مع فورية الخطر. 

الجانب الآخر من التقصير الدولي يتعلق بالإغاثة. أطلقت الأمم المتحدة خطة استجابة إنسانية بقيمة 6 مليارات دولار لعام 2025، لكنها لم تحصل إلا على جزء ضئيل من التمويل. وكانت النتيجة فجوة واسعة في إيصال الغذاء والدواء والمياه، ما يضاعف استخدام «التجويع كسلاح» ويحول الأزمة إلى مأساة من صنع البشر أكثر مما هي نتاج ظرف طبيعي. 

لا بد من التوقف أيضا عند ملف السلاح، حيث إن الكثير من التقارير الموثوقة وثقت تورط دول بعينها في تسليح قوات الدعم السريع ما يشير إلى احتمال خرق حظر الأسلحة المفروض على دارفور. لا يمكن النظر إلى هذا الأمر باعتباره خرقا أو خللا قانونيا، ولكن الأمر يتعلق بالمساهمة في إطالة أمد النزاع وتعزيز قدرة الفاعلين المسلحين على ارتكاب الفظائع. 

السؤال الجوهري الآن ماذا على المجتمع الدولي أن يفعل؟ 

أولا، يتطلب الأمر اعترافا صريحا بأن ما يحدث في دارفور ليس «حربا أهلية تقليدية»، بل يحمل جميع مؤشرات الإبادة. هذا الاعتراف يجب أن يقترن بضغط أممي وإفريقي لفرض ممرات إنسانية محمية إلى الفاشر والمدن المحاصَرة. ثانيا، على مجلس الأمن ــ أو في حال عجزه، عبر تحالف إرادات من الدول الفاعلة ــ فرض آلية رقابة مستقلة على إيصال المساعدات لمنع استخدامها كسلاح. ثالثا، ينبغي تفعيل أدوات العدالة الدولية سريعا، بما في ذلك إصدار أوامر توقيف بحق قادة الدعم السريع المسؤولين عن الجرائم الموثقة، على غرار ما حدث في سياقات سابقة بالبوسنة أو رواندا. وأخيرا، لا بد من محاسبة شبكات التوريد التي تواصل خرق الحظر الأممي على السلاح. 

يذكرنا التاريخ أن التردد الدولي أمام بدايات الإبادة كان دوما مكلفا كما حدث في رواندا 1994، وسربرنيتسا 1995، ودارفور نفسها في 2003-2005. اليوم، يلوح الخطر مجددا في الأفق نفسه، وبأدوات أكثر وحشية، وسط صمت عالمي أوسع. 

وهذا العجز ليس معزولا عن نمط عالمي، حيث نراه الآن بشكل مؤلم جدا في غزة كما نراه في الفاشر ومدن سودانية أخرى.. ولن تمحو بيانات التنديد أو الندم لاحقا العار الأخلاقي لعجز العالم اليوم، وستبقى تستعيد عجزه التاريخي.