No Image
رأي عُمان

الذكاء الاصطناعي يعيد طرح الأسئلة الكبرى أمام العالم

26 أغسطس 2025
26 أغسطس 2025

لم يعد النقاش حول الذكاء الاصطناعي محصورا في المختبرات أو وعود الشركات التقنية الكبرى ولكنه خرج ليعيد طرح الكثير من الأسئلة الكبرى حيث دارت في الأسابيع الماضية نقاشات تمس جوهر القيم الإنسانية مثل، هل يمكن أن تُمنح النظم الذكية مكانة أخلاقية؟ وكيف يُعاد تعريف العمل في عصر الأتمتة؟ وما حدود الشفافية حين تُبنى هذه النماذج على نصوص وصور ليست ملكا لها؟ 

تنشغل الأطروحة الأولى بإمكانية أن تُعامل النماذج الذكية كما لو كانت كائنات قادرة على المعاناة أو الاستحقاق! وبدأت جماعات ضغط في المملكة المتحدة تحديدا تتحدث عن «رفاه الآلات» وحقوقها في ألا تتعرض لإساءة رقمية أو ضغط يتجاوز طاقتها الحسابية! يبدو هذا الطرح مثيرا جدا لكنه يحمل مخاطر جدية. ويهدد هذا الطرح الغريب الذاهب نحو تشكيل بؤر ضغط حقيقية بتحويل الانتباه عن الأولوية الحقيقية المتمثلة في حماية البشر من آثار هذه النظم، وليس حماية النظم من البشر. ويخلط الإصرار على منح الذكاء الاصطناعي مكانة أخلاقية في غياب أي دليل على وعيه بين الحقوق المضمونة للأفراد وبين أوهام يتم التسويق لها بمهارة. 

أما الأطروحة الثانية التي دارت خلال الأسابيع الماضية فهي أكثر التصاقا بالواقع، وتنطلق من أن الذكاء الاصطناعي لن يلغي العمل بقدر ما سيعيد ترتيب قيمته. المهن التي تقوم على اللمسة الإنسانية، في الرعاية والتعليم والتواصل، قد تزداد أهميتها، فيما تتعرض وظائف كان يُنظر إليها باعتبارها رفيعة ومحمية لهزة غير متوقعة. هذا الطرح يتجاوز الجانب الاقتصادي إلى النظرة والمكانة الاجتماعية؛ فحين تتغير قيمة المهن يتغير تصور المجتمع لما يستحق الاحترام والاعتراف خاصة في المجتمعات المنشغلة بهذه القيمة بشكل جذري. وإذا لم تصحب هذا الطرح في تحول القيمة الاجتماعية للكثير من المهن سياسات تدريبية وتعليمية فإن ملايين البشر قد يجدون أنفسهم في هوامش سوق عمل لا يعترف بخبراتهم. ويمكن هنا الاستشهاد بالجدل الدائرة في بعض المجتمعات في ظل بدء سطوة الذكاء الاصطناعي على مهنة الطبيب، أيهما الآن أكثر مكانة مهنة الطبيب أم مهنة الممرض التي لا يبدو أن الذكاء الاصطناعي سيستطيع في القريب العاجل السطو عليها! 

أما الأطروحة الثالثة فتركز على موضوع الشفافية وهي أطروحة رافقت الذكاء الاصطناعي التوليدي منذ فكرته الأولى وقد تبلورت الأطروحة إلى الآتي: ما الذي يسمح به القانون حين تُدرّب النماذج على محتوى إبداعي أو صحفي أو بحثي ليس ملكا لها؟ تساهلت بعض الأنظمة القانونية في ذلك بدعوى تشجيع الابتكار، لكن سرعان ما ظهرت نزاعات قضائية تكشف أن الثقة لا يمكن أن تُبنى على غموض. وما لم تُفرض معايير واضحة لإعلان مصادر التدريب، ونِسَب الاقتباس، وحقوق المبدعين، فإن السوق بأكمله سيبقى معرضا لاتهامات بالسطو وفقدان الشرعية. 

ما يجمع هذه الأطروحات التي تبدو متفرقة في مساراتها أنها تذكرنا بأن الذكاء الاصطناعي ليس موضوعا تقنيا ولكنه في الحقيقة موضوع قيمي وفلسفي يتمثل في نظرتنا للتحولات التي سيخلقها في مجتمعاتنا.. وماذا علينا أن نفعل إزاء كل هذا؟ 

لا يكمن الجواب في رفض الذكاء الاصطناعي ولا في تبنيه دون قيود وضوابط. من المهم الآن أن تكون هناك شفافية ملزمة في ما يتعلق بمصادر تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. ولا بد أن تكون هناك سياسات عمل تعيد توزيع القيمة بعدالة، وإصرار على أن الحقوق لا بد أن تُصان للبشر لا للخوارزميات. ومرة أخرى قد تبدو لنا هذه القواعد التي تطرح تقنية ولكنها في جوهرها العميق قيمية/أخلاقية؛ فهي التي تحدد إن كان الذكاء الاصطناعي سيعزز إنسانيتنا أم سيُضللنا بخطابات براقة تخفي هشاشة الواقع.