No Image
رأي عُمان

الاعتراف بدولة فلسطين يعيد صياغة علاقة الغرب بإسرائيل

21 سبتمبر 2025
21 سبتمبر 2025

إعلان بريطانيا وكندا وأستراليا الاعتراف بدولة فلسطين لحظة فارقة تعيد صياغة علاقة الغرب بالقضية الفلسطينية مهما حاولت إسرائيل والولايات المتحدة التقليل من أهمية هذا الحدث. لعقود ظل الاعتراف بدولة «فلسطين» محصورا فيما يعرف بدول الجنوب، أو دول أوروبية يمكن وصفها بدول الهامش الأوروبي. الجديد أن عواصم كبرى، بعضها من مجموعة السبع، قررت الانحياز إلى مبدأ الدولة الفلسطينية علنا.. وما يعطي مثل هذا القرار أهمية وقيمة أن يأتي في ذروة حرب إبادة تشنها إسرائيل على قطاع غزة، ومعنى هذا أن هذه الدول تنحاز بشكل واضح إلى مبدأ الدولة الفلسطينية في ظل حرب غزة، كما أن اختيار توقيت انعقاد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لإعلان الاعتراف يحمل دلالة لا تخلو من رمزية الأمر الذي من شأنه أن يدفع الكثير من الدول في قادم الأيام لتخطو مثل هذه الخطوة الجريئة.

ولكن ما الذي تغير؟ أولا، الرأي العام. في بريطانيا، أظهرت استطلاعات للرأي أن الأغلبية تميل إلى الاعتراف بدولة فلسطين، فيما يرى نصف البريطانيين تقريبا أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة غير مبررة. في الولايات المتحدة، أظهرت أبحاث حديثة أن 43% من الأمريكيين يرون أن ما يحدث في غزة يرقى إلى الإبادة الجماعية، وأن تأييد الشباب والديمقراطيين لإسرائيل يتآكل بسرعة. وهذه الأرقام تعني الكثير في الغرب لأنها تجري وفق أسس علمية دقيقة ودائما ما تعبر عن وجدان شعبي عميق.

ثانياً، الموقف السياسي. فبريطانيا وصفت اعترافها باعتباره خطوة «لحماية إمكانية السلام» وإنقاذ حل الدولتين، فيما شددت كندا على ربطه بإصلاحات فلسطينية وانتخابات مقبلة. أما أستراليا فقد وضعته في إطار دعم الاستقرار الإقليمي. ورغم تباين مبررات الدول في الاعتراف بدولة فلسطين إلا أن جميعها تشترك في رسالة واحدة مفادها أن سياسات الاحتلال والاستيطان لا يمكن أن تبقى دون ثمن سياسي، وهذا في حد ذاته تحول عميق في الفكر الغربي.

تدرك إسرائيل خطورة الأمر رغم أنها تحاول وصفه بالخطوة «الرمزية» وأنها لن تغيّر شيئا على الأرض.. ولكن حتى الخطوة الرمزية عندما تأتي من لندن وأوتاوا وكانبيرا وباريس تتحول إلى ضغط استراتيجي. صحيح أن الاعتراف لن يحل القضية الفلسطينية ولكن من شأنه أن يرفع مستوى التمثيل ويمنح الفلسطينيين وضعا قانونيا ودبلوماسيا أقوى، ويفرض على الشركاء الغربيين مراجعة علاقتهم الخاصة بإسرائيل.

لكن علينا أن لا ننظر إلى الأمر من زاوية أن الغرب يغير تحالفاته، فهو لن يتخلى عن إسرائيل، لكن على الأقل يمكن أن يراجع شروط الدعم، فالدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية تقول لنا ضمنا إن الصراع لم يعد يُقرأ فقط من زاوية «أمن إسرائيل» كما كان سابقا، ولكنه الآن يقرأ، أيضا، من زاوية الحقوق الفلسطينية والشرعية الدولية.. هذا يعني أن هناك نقلة نوعية في ميزان الخطاب وفي طبيعة الاصطفاف.

وهذه القراءة ليست الخطر الوحيد الذي يحيط الآن بإسرائيل، فهناك خطر آخر يتمثل في تآكل ما كان يوما شبكة الشرعية السياسية التي منحتها حصانة لعقود، سواء كانت تلك الشبكة عبارة عن دول غربية وازنة أم شبكة الشعوب الغربية التي فقدت ثقتها في السردية الإسرائيلية خاصة من المنتمين للأجيال الشابة الذين تشكلهم منصات التواصل والوعي الرقمي العالمي. ولم يعد هؤلاء أسرى رواية واحدة كما كان الحال مع أجيال سابقة. واستطلاعات الرأي الأخيرة في الولايات المتحدة تُظهر أن الدعم لإسرائيل ينهار بين الشباب الديمقراطيين والإنجيليين تحت سن الثلاثين، وهو ما ينعكس أيضا في بريطانيا وفرنسا. هذا التغير البنيوي لا يقتصر على الأرقام، بل يُعيد صياغة البيئة السياسية التي ستتحرك داخلها الحكومات المقبلة في الدول الغربية. وبقدر ما تراهن إسرائيل على شبكة تحالفات تاريخية مع الغرب، فإن فقدانها ثقة هذه الأجيال الناشئة يعني أن عزلتها مرشحة للتفاقم مع مرور الوقت.

الاعترافات الغربية لن توقف الحرب غدًا، لكنها تكشف أن الوضع الراهن لم يعد قابلاً للاستمرار. ومن دون أفق لدولة فلسطينية، يفقد الغرب ما تبقى له من مصداقية، وهذه الحقيقة أكثر خطورة على إسرائيل من أي سلاح.