الإنسان اجتماعي بطبعه.. لكن ليس وسط الأوبئة
يقول ابن خلدون في مقدمته إن «الإنسان اجتماعي بطبعه» ما يعني أنه فطر على أن يعيش وسط الناس لا بعيدا عنهم، ويقيم بينه وبينهم علاقات اجتماعية وحوارات تدفع بحياته نحو مستقبل مختلف. وتقول المعاجم إن استعمال كلمة «الإنسان» جاء من الأنس، حيث إن هذا الإنسان يستأنس بمن حوله فلا يعيش حياة عزلة بمفرده. وإذا كان الطبيعي أن تكون حياة الناس «اجتماعية» فإن لهذه الطبيعة على مر العصور استثناءات قد تكون نتيجة خيارات شخصية أو نتيجة ظروف سياسية أو نتيجة جوائح وكوارث طبيعية. وكانت الأوبئة التي اجتاحت العالم منذ آلاف السنين أحد تلك الاستثناءات، حيث يتحول «التقارب الاجتماعي» إلى عامل مساعد في انتشار الأوبئة والأمراض، والتحرك بها من مكان إلى آخر؛ لذلك حذرت منه في مثل هذه الظروف حتى المدونات الدينية والفقهية وأكد عليه لاحقا علماء الأوبئة وطبقت منذ عشرات القرون استراتيجية «العزل» للمرضى.. لكن أغلب الأجيال التي تعيش اليوم كانت بعيدة عهد بالأوبئة الخطرة التي مرت على العالم خاصة من هم دون الستين سنة والسبعين سنة؛ لذلك فإن الدعوة إلى «التباعد الاجتماعي» وكذلك «التباعد الجسدي» التي أقرتها جميع الدول وأكد عليها جميع علماء الأوبئة منذ ظهور جائحة فيروس كورونا مطلع العالم الماضي كونها أحد أنجح الوسائل للوقاية من الفيروس لم تلقَ ذلك القبول الكبير لأنها جاءت مخالفة لفكرة «الإنسان اجتماعي بطبعه» و»يستأنس بمن حوله»، أو لأن الإنسان المعتد بالتقدم التكنولوجي الذي وصلت له البشرية لم يعتقد أنه سيعود إلى استراتيجية «تقليدية» تتمثل في الحجر والعزل أو «التباعد الاجتماعي فلم يتقبلها.
رغم ذلك فإن العقل الذي كرم الله به الإنسان يجعله قادرا على فهم الخطر الكبير الذي يسببه «التقارب الاجتماعي» وسط هذه الجائحة، وإذا كان التقارب الاجتماعي يدخل في الإنسان الأنس، فإنه وسط هذه الجائحة يورده موارد الهلاك المؤكد. وشاهدنا كيف أن الوباء ينتشر بشكل كبير في الدول التي بقيت تناهض الإجراءات الاحترازية والتي في مقدمتها «التباعد الاجتماعي» في وقت كان الوباء يوشك على الاختفاء في بعض الدول التي بقيت ملتزمة بالإجراءات سواء عبر الوعي بخطر التجمعات في هذا الوقت بالذات أو عبر فرض الأمر بقوة القانون.
وفي سلطنة عُمان وصلت المؤشرات الوبائية إلى درجة اعتقدنا فيها أن الوباء إلى زوال نهائي في بلادنا، لكن هذه الثقة جعلت بعضهم يتخلى عن الإجراءات الاحترازية ويدخل في تجمعات كبيرة دون أن يرتدي الكمامة على أقل تقدير الأمر الذي معه بدأت المؤشرات الوبائية في الصعود بشكل مطرد، وهذا مؤشر خطر جدا في ظل وجود متحور جديد يوصف بأنه يملك القدرة على الانتشار بشكل أسرع حتى من المتحور «دلتا» الذي سبب انتشاره في الصيف الماضي أكبر كارثة إنسانية في المجال الصحي منذ ما يقرب من قرن؛ لذا فإن قرارات اللجنة العليا التي صدرت أمس ونصت على منع تجمعات العزاء وعقد القران في المساجد والقاعات والأماكن العامة الأخرى واستمرار منع إقامة جميع المناسبات الاجتماعية والتجمعات في المجالس العامة تأتي في إطار منع استفحال انتشار الوباء مرة أخرى.. وهذه القرارات مبنية على رؤية علمية أقرتها النصوص الفقهية منذ أكثر من ألف سنة وكانت الخيار الوحيد في الكثير من الأوقات في سبيل مواجهة الأوبئة القاتلة التي كانت تجتاح البشرية. وبلا شك فإن هذه القرارات وما قد تليها خلال المرحلة القادمة من شأنها أن تحمي الناس من تفشي الوباء مرة أخرى ومن انهيار المؤسسات الصحية وكذلك تحمي استمرار الأنشطة الاقتصادية التي يؤثر توقفها في مصادر رزق الناس.
