نبش قبر نجيب محفوظ!
بدلاً من أن يحتفي الوسط الأدبي المصري باختيار اسم نجيب محفوظ شخصية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2026 انبرى مثقفون للهجوم على إدارة المعرض، إذ إن ذلك الاختيار - في وجهة نظرهم - به شيء من الكسل! معظم المنتقدين يرون – على عكس الحقيقة – أن مشروع محفوظ قُتِل بحثاً، بما يعني أنهم أغلقوا الباب أمام أي إنسان يريد أن يدرس الكاتب العربي الوحيد الفائز بنوبل! والحقيقة أن محفوظ يعاني - في الأساس - من استحواذ عدة رواياتٍ له على الاهتمام الأكبر، وفي مقدمتها طبعاً "أولاد حارتنا"، التي كادت أن تودي بحياته بعد أن فسَّرها متطرفون تفسيراً دينياً، وكذلك "ملحمة الحرافيش" و"الثلاثية" و"ثرثرة فوق النيل" و"القاهرة الجديدة" وربما عمل أو عملين آخرين، أما بقية الأربع وخمسين عملاً فلم تُقرأ بشكل جيد إلا على نطاق ضيقٍ وفي الأوساط الأكاديمية.
ذلك الجحود ضد محفوظ ليس غريباً عليه، فقد واجه في حياته مكائد حاكها له الغرباء وكذلك أقرب المقربين، لكنه عبر منها واستمر في مراكمة مشروعه العظيم.
وهذه قصص غريبة يمكنها أن تمنحك لمحةً مما مرَّ به..
الأولى جمعته بصديقه الكاتب عبد الحميد جودة السحار، حيث أسرَّ محفوظ إليه بأنه يكتب رواية أجيال اسمها "بين القصرين" على غرار رواية طه حسين "شجرة البؤس"، ليفاجأ بعبدالحميد يخبره أنه أيضاً يكتب في نفس التوقيت "رواية أجيال"، ثم تحدَّاه على مَن ينجز عمله أولاً! حمل محفوظ مخطوط "بين القصرين" الضخم إلى مكتب سعيد جودة السحار ناشر "مكتبة مصر" (شقيق عبد الحميد) ووضعها أمامه وفوجئ به يرفض نشرها بحجة حجمها السمين، حيث لا يناسب السوق وسيتسبَّب له في خسارة مؤكدة. عاد بها محفوظ - مرة أخرى - إلى بيته مجرجراً أذيال الخيبة ووضعها في درج المكتب شهوراً طويلة! ولا شك أن صاحب "حضرة المحترم" فكر أن سعيد يفسح المجال لشقيقه عبد الحميد على حسابه، خاصة بعد أن صدرت لعبد الحميد روايتي أجيال، الأولى بعنوان "في قافلة الزمان" والثانية "الشارع الجديد"! بشكلٍ عام انتهت الأزمة حين قرأ يوسف السباعي حواراً لمحفوظ يذكر فيه "بين القصرين" وفشله في إصدارها، وعرض عليه أن ينشرها في مجلة سيرأس تحريرها هي "الرسالة الجديدة" فوافق فوراً، وبعد نشر عدة حلقات منها بدأ النقاد يتحدثون عنها باستحسان، حتى اتصل به سعيد السحار مرة أخرى وطلب أن يُحضِرها له، وعرض عليه أخيراً نشرها لكن مع تقسيمها، وهكذا وُلِدت الثلاثية. خرج محفوظ من الأزمة بقرارٍ صارمٍ وهو عدم الكلام أمام أي أحد عن عملٍ قيد الكتابة! والقصة الثانية تتعلق بأزمة "أولاد حارتنا"..
فوجئ كاتبنا بصديقه صالح جودت ينشر رسالة خطيرة لقارئٍ في مجلة "المصور" يقول فيها إن: "نجيب محفوظ يحيد ويجانب كل أصول القصة، فكتابته الأخيرة لا هي رمزية ولا هي واقعية ولا هي خيال ولا تنطبق على أي قالب معروف. جاء محفوظ ليتحدَّى معتقدات راسخة ولهذا يتعذَّر على كائنٍ مَن كان حتى ولو محفوظ نفسه أن يقدِّمها بمجرد كتابة قصة. التستر وراء الرموز أضعف قضية نجيب محفوظ في مجتمع يجل الدين بطبيعته!" وكانت تلك الرسالة شرارة ضمن عدة شرارات أشعلت الأزمة، وقد استمر جودت في نشر الرسائل المسيئة إلى الرواية وصاحبها، ثم حاول أن يظهر محايداً من خلال نشر رسائل إيجابية قليلة لكنها بدت محاولة خائبة لتجميل الصورة. (الغريب أن محفوظ كتب يوماً ما قصة مشتركة بعنوان "على البلاج" مع صالح جودت وعبد الحميد السحار)! فضَّل محفوظ نشر "أولاد حارتنا" في "الأهرام" مع أنه كان قد قطع وعداً لحلمي سلام رئيس تحرير مجلة "الإذاعة" على أن يمنحها له، فجُنَّ جنون حلمي وهاجمه بضراوة وانصبَّت حملته على الإيحاء بأنه يستغل منصبه كرقيبٍ لتمرير أعماله في السينما، وردَّ عليه محفوظ في رسالةٍ مؤكداً أنه انتهى من تلك الأعمال السينمائية -التي يُعلَنُ عنها حالياً مقرونة باسمه - قبل أن يتولَّى المنصب الدقيق! كان عادياً أن يتعرض محفوظ للهجوم من المشايخ لكن الغريب أن رجال دولة شاركوا أيضاً في محاولة النيل منه، فقد شنَّ وزير الاقتصاد علي حسن عباس زكي هجوماً ضد وزير الثقافة ثروت عكاشة في البرلمان لأنه أسند مهمة الرقابة لرجل متهمٍ في عقيدته، وكذلك فقد نقل رئيس تحرير "الأهرام" محمد حسنين هيكل لمحفوظ أن كثيراً من الأدباء هم مَن أرسلوا شكاوى للأزهر لتأليبه على الرواية! اضطر محفوظ أن يظهر في كثيرٍ من الصحف والمجلات ليتحدث عن "أولاد حارتنا" ويقدِّم محاولة لتفسيرها بعيداً عن التأويل الديني، ويبدو أنه استشعر أن الحملة الضارية تهدد حياته فاستمر في محاولة دفع الخطر بعيداً عنه.
نامت الأزمة حتى استيقظت مرة أخرى بعد سنوات، ففي عام 1994 تعرَّض للطعن على يد شابٍ لم يقرأ "أولاد حارتنا" لكنه قرر تنفيذ بعض فتاوى تجرِّمها وتهدر دم صاحبها، ولحسن الحظ أن الشاب تراجع عن اغتياله بالمسدس لأن الشارع الذي يقطنه مزدحم - على الدوام - ودوي الرصاص سيجلب له الشرطة فوراً، ومع تدخل صديقه فتحي هاشم وقرب مستشفى الشرطة بالعجوزة من مكان الواقعة المؤسفة أمكن إنقاذه وعاش 12 عاماً أخرى إذ رحل في 2006.
تعرض محفوظ كذلك لموجة تجريح بعد أن حصل على نوبل عام 1988، فقد قال يوسف إدريس إن الصهيونية العالمية منحتها له مكافأة له على موقفه المؤيد لاتفاقية "كامب ديفيد". يتساءل محفوظ في حواره الطويل مع رجاء النقاش: "هل بلغت السذاجة بالصهيونية العالمية لأن تسعى من أجل منح أديب عربي جائزة كبرى بهذا الحجم والوزن لترفع من شأن العرب وتلفت أنظار العالم إليهم وإلى أدبهم في حين أن العرب هم العدو الأول لإسرائيل؟!"، ويضيف: "الصهيونية إذا أرادت أن تكافئ كاتباً على موقف - تشجِّعه هي - فقد تضع في يده أو في حسابه بالبنك مبلفاً من المال على سبيل الرشوة لا أن تسعى إلى حصوله على جائزة أدبية هي الأولى في مجالها في العالم. الواضح أن يوسف إدريس لم يكن يبغي من اتهاماته سوى التشهير والتجريح".
وقد روَّجت فئة أخرى من المثقفين لفكرة أنه حصل على نوبل لأن رواياته تتضمَّن نقداً عنيفاً للمجتمع المصري والعربي بالتالي تصبح الجائزة وثيقة إدانة لمجتمعاتنا، وقد بُحَّ صوت محفوظ وهو يردد أن الفن ليس مطلوباً منه أن يرسم صورة جميلة لواقع سيئ.
بعض الصدمات التي طالت محفوظ لم يكن لها علاقة برواياته، فبعد أن فاز بجائزة الدولة - في نهاية الخمسينيات - وحصل على ألف جنيه مكافأة رأى إعلاناً عن أراضي بناءٍ وذهب بصحبة أصدقائه ليشتري قطعة ودفع المال كله ليفاجأ بعد فترة باختفاء أصحاب الشركة المُعلِنة ويكتشف أنه تعرَّض لعملية نصب وقد أصابته الصدمة بمرض السكري.
وبرغم كل ما واجهه من عنفٍ وتصفية حسابات وكراهية مضمرة ومعلنة إلا أن محفوظ كان رجلاً صالحاً لم تفسد الضغينة روحه، بل إنه التمس الأعذار لكل شخص آذاه، بمَن فيهم الشاب الذي حاول اغتياله، وليس من اللائق الانقسام على شيء يخصُّ اسمه، أو نبش قبره وإزعاجه في أبديته!
