ثقافة

«ناعومي وأخواتها» للمصري هشام الخشن .. كيف تهزم وحش الماضي من دون سلاح؟!

08 سبتمبر 2023
08 سبتمبر 2023

في مثل هذا النوع من الروايات، أقصد رواية «ناعومي وأخواتها» للكاتب المصري هشام الخشن، تكون مشدودا إلى الأحداث حتى آخر صفحة، حتى آخر فقرة، وربما حتى آخر سطر، فالكاتب يبني الرواية على حبكة قوية متشابكة، إذا أخطأ خطأ واحدا، فإنه يهد الرواية من أولها لآخرها، مثل لاعب مهووس بالدومينو يرتِّب القطع بالتوازي في صفوف طويلة، فإذا لمس أول واحدة وأسقطها تبدأ القطعة التالية في السقوط على القطعة الثالثة، والثالثة على الرابعة، وهكذا، حتى تنهار الصفوف كلها.

كما أن هذا النوع من الروايات لا يمكن حكي مضمونه، أو على الأقل خاتمته، وإلا حكمت عليه وعلى قراء هذا المقال بعدم قراءته، فما حاجتنا إلى قراءة رواية سرد أحدهم أحداثها علينا، وأطلعنا على مصير شخصياتها، وما آلت إليه رحلتهم المشوقة التي قطعوها كأنهم يقطعون متاهة تعرف بدايتها جيداً لكنك لا تستطيع أن تتنبأ بخاتمتها؟ ولهذا من الأفضل أن نتوخَّى الحذر ونحن نكتب عن الرواية، ونُبقي خاتمتها في طي الكتمان.

الحبكة في الرواية أقرب إلى طبقات، كل طبقة تخفي أخرى، وأنت لا يمكن أن تصل إلى اللاحقة بدون أن تمر على السابقة، أي أن كل خطوة في العمل لازمة للسير في الطريق بدءاً من اللحظة التي وجدنا أنفسنا فيها مع شخصية بسيطة، تفرحُ إذا وصفها أحدهم بأنها «طيبة القلب»، هي شخصية «نعمت»، الغنية، الجميلة، الناجحة في عملها الذي ورثته هي وشقيقها «سيد» عن أبيهما. لكن يبدو أن هذا المدخل البسيط الهادئ كان فخا ينصبه لنا هشام الخشن، كأنه يقول لنا لا تنخدعوا بما ترونه لأول مرة، ولا تتعجَّلوا في حُكمكم، فخلف الأقنعة هناك أقنعة أخرى يستطيع الإنسان أن يبدِّلها كما يبدِّل ملابسه. فنعمت هو اسم مستعار لفتاة نصفها ريفي ونصفها الآخر أرستقراطي، (ريفي) نسبة إلى مسقط رأس أبيها، الذي يفخر بأصوله، ولا يتوقف عن إحراجها أمام زميلاتها، بنات الطبقة الأرستقراطية بإصراره على نطق الكلمات بلكنته الريفية، اعتقاداً منه أن التمسك بالجذور هو ما يمكن أن يعكس معدنه الأصيل، و(أرستقراطي) نسبة إلى أمها رغم أن تلك الأم تنتمي إلى الفرع الأقل في عائلتها الراقية.

والاسم الحقيقي لنعمت هو «نعيمة»، لكنه اسم يوصمها بالريفية، ولهذا استبدلته بنعمت، وهي اختارت كذلك أثناء دراستها بالجامعة الأمريكية اسماً آخر يجعلها أرقى درجات، اسماً سهل النطق على زميلاتها، وإيقاعه يشعرها بالراحة.. هو «ناعومي». قد تكون الحكاية حتى الآن عادية، فكثيرون قد يملكون اسماً أو اثنين أو حتى ثلاثة داخل البيت ووسط الزملاء والأصدقاء وفي مكاتب العمل، لكن نعمت أو نعيمة أو ناعومي لديها حكاية شديدة الإثارة، ولكنها حزينة جداً..

في إحدى طبقات الرواية نعرف أن أمها تركتها وهي طفلة، وواجهت الأم غضب عائلة الأب، باعتبارها خائنة تتنازل عن زوجها وابنتها، مهرولة خلف حبها، إلى أن تزوجت في نهاية المطاف من بريطاني في لندن، لكن الطفلة وجدت في عمَّتها من تعوِّضُها عن أمها، لكنها ليست عمَّة بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما واحدة من قريبات الأب من ناحية الأعمام، وتُقنِع العائلةُ تلك العمَّةَ بأن تتزوج من الأب! وبالتالي صارت العمة بعد الزواج من والد نعمت أقرب إلى أمها، بينما الأم الحقيقية كانت تمتعض بعد ذلك من هذه الزيجة وتقول: كيف ترضى هذه المرأة (أي العمة) بالزواج من شخص يشبهها كأنه أخوها؟! وفي طبقة أخرى من الرواية نعود مع البطلة إلى حادثة صعبة تخصُّ ختانها في مشهد قاسٍ، خاصة أنها كانت بصحبة جدتها وعمتها ولم تفهم في سنها الصغيرة هذه كيف يتخليان عنها ويتركانها لهذا الشخص البشع الذي يبتر جزءا من جسدها؟! وفي طبقة ثالثة نسافر معها إلى لندن لنرى كيف عادت علاقتها بأمها، ويا ليتها ما عادت، حيث يحاول شقيقها من ناحية الأم «آدم» وصديقاه الإنجليزيان اغتصابها، وحينما تعرف الأم تلومها وتؤكد لها أن ملابسها هي السبب فيما حدث لها، ولو أنها لم تثر هرمونات الشبان المراهقين لما أقدموا على لمسها. مع العلم أنها كانت ترتدي ملابسها العادية الرصينة. وفي طبقة رابعة نشاهد اعتداء أخيها «سيد» بالضرب عليها في كثير من المواقف بطريقة وحشية.

تبدأ الرواية قبل كل هذه الأحداث، من لحظة تخدير نعمت وخطفها بالقوة وإيداعها مستشفى للأمراض النفسية، وهي مؤامرة تجعلنا الرواية نتأرجح في فهم دوافعها، ومن شارك فيها؟ هل هو زوجها عصام، أم أخوها سيد، أم أمها، أم أن الجميع شارك في المؤامرة، ولماذا يفعلون ذلك وهم جميعاً رابحون بعد أن مات الأب وورثوا عنه مليارات؟ لماذا يفعل عصام ذلك وهي لم تتأخر عن دعمه لا بالحب ولا بالمال طوال حياتها؟ ولماذا تفعل الأم ذلك وهي التي أمدتها بالمال اللازم لتعيش حياتها القديمة الأرستقراطية بعد أن عانت سنوات من شظف العيش في الخارج؟ داخل المصحَّة تربطها علاقة بالطبيب النفسي «عمر»، وبعد خروجها تواصل التعامل معه ومع زوجته ومساعدته لورا، وننتبه إلى أن نعمت قد تكون مريضة نفسية فعلاً، ويشخِّص الدكتور عمر حالتها باعتبارها «اضطراب الهوية التفارقي» أو بتعبير آخر «اضطراب تعدد الشخصيات» وقد خاف عمر من هذا التشخيص بالذات فكثير من الأطباء النفسيين ينكرونه ويجدون أنه مرض أقرب إلى الخيال أو الادعاء، وهو مرض سيئ السمعة، وأسوأ ما فيه أن المعالجين في بعض الأحيان يستطيعون الإيحاء لمرضاهم بأنهم مصابون به، وهناك حوادث كثيرة لبعض الأشخاص أقدموا على ارتكاب جرائم وفي أذهانهم أن يمثِّلوا إصابتهم بهذا المرض حتى يفلتوا من العقاب إذا ثبت للمحكمة أنهم مرضى نفسيون، فهل كانت نعمت تُمثِّل على طبيبها عمر ومساعدته لورا؟ وهل تنوي ارتكاب جريمة ما انتقاماً مما حدث لها؟ وهل كان حديثها عن الرغبة في الانتحار نوعاً من سبك التمثيلية على الطبيبيْن لإلهائهما عما تفكر فيه؟ وهل دراستها لعلم النفس مكَّنتها من حبك خطتها؟ أم أنها شخص مسكين مجني عليه في جميع الحالات ومصابة فعلاً بمرض «اضطراب الهوية التفارقي»؟ إن لم تكن نعمت مريضة نفسية فهي إذن ممثلة عظيمة. يجب أن تشاهدها وهي تجلس أمام الطبيب، إذا تلبَّستها شخصية ناعومى تضم ساقيها وتحركهما ناحية اليسار معاً، وترفع رأسها بطريقة الهوانم لتتحدث من أعلى، وإذا استدعت شخصية نعيمة المسكينة يتقوَّس ظهرها وتتغير لغتها حيث لا تكف عن ذكر الأمثال الشعبية، وإذا استدعت شخصية «نوني» (وهي شخصية رابعة لها تدل على طفولتها) تضم ساقيها إلى جسدها وتتكور على نفسها في وضع الجنين.

وأجمل ما فعله هشام الخشن في الرواية أنه جعلنا نشك في تصرفات الجميع، إذا اقتنعنا بشيء يسارع إلى نقضه، إذا اتجهنا إلى اليسار أخذنا إلى اليمين، إذا تعاطفنا مع شخصية من شخصيات البطلة سارع إلى جعلنا ننفر منها ونتعلق بأخرى، إذا حكمنا على أمها بشيء سلبي نلتمس لها العذر، إذا التمسنا لها العذر يجبرنا على أن نعود وننقلب عليها، إذا جعلنا نكره تصرفات شقيقها سيد نتفهَّم دوافعه وتحركاته لـ«التكويش» على الميراث، وإذا فهمنا دوافعه كرهنا تصرفاته.

لم يترك هشام الخشن شخصية إلا ورسمها بشكل جيد، حتى شخصيتا الطبيبيْن عمر وزوجته لورا أشركنا في تفكيرهما وجعلنا نشعر بمعاناة لورا بسبب اهتمام عمر بمريضته بشكل كان مبالغاً فيه أحياناً، ثم إن المؤلف لم يخلق شخصياته من فراغ، بمعنى أنه حرص على وجود تاريخ لها، وهو ما منح الرواية عمقاً كبيراً، فجد نعمت لأبيها عرف ما ينوي الضباط الأحرار فعله بعد ثورة يوليو 52، ولذلك قبل صدور قوانين الإصلاح الزراعي باع أراضيه فتجنَّب مفاجأة المصادرة، وراكم ثروة، ولو لم يفعل ذلك، لما نشأ أبناؤه وأحفاده وهم يتصارعون على الثروة أو يخططون للاستيلاء عليها، ولولا ما فعله لما كانت هذه الرواية، أو لكتبها هشام الخشن بطريقة مختلفة.

أما الأب فقد تعرَّف على زوجته (أم نعيمة) في عمارة يملكها بجاردن سيتي وتقدَّم إليها ورضيت بالزواج منه رغم قلة أصله قياساً إلى أهلها لأنه يملك المال الذي يضمن لهم أن يعيشوا كما عاشوا دائماً: أبناء عائلة أرستقراطية. وتمر أعوام طويلة قبل أن يظهر عصام في الصورة ليلعب دوره في الأحداث. يشاهد الأرض الفضاء في المهندسين وهي ملك والد نعمت فيبحث عنه ويصل إليه ويقنعه بأن يحصل على التراخيص لبناء عمارة ويصممها له ويبنيها ويسوِّقها ويبيعها. ثم تصبح العمارة كالفرخة التي تبيض ذهباً بالنسبة له. كأن هشام الخشن يقول لنا إنه لا شيء يحدث بالمصادفة وإذا حدث شيء بالمصادفة (كما في حالة عصام حينما شاهد قطعة الأرض الفضاء) فيجب أن نصدقه، لأنه كتب تفاصيل الحدث بحرفية وواقعية وحوَّله إلى تاريخ يمكِّنُنا من فهم دوافع عصام، والطريقة التي يتعامل بها مع الجميع.

هناك كذلك بعض التفاصيل الذكية التي تعرفنا على الطريقة التي يختار بها هشام الخشن شخصياته، فمثلاً شقيق نعمت اسمه سيد وأبوها اسمه سيد وجدها سيد ووالد جدها سيد، وهو ما يكشف عن الخط الروتيني والحياة النمطية للعائلة من فرع الأب، فهي عائلة ترغب في إكمال الحياة بنفس الصورة، حيث التقاليد الراسخة القوية، والتفاخر بالأصل، حتى وإن كان يُنظر إليه باعتباره درجة أدنى قياساً إلى العائلات الراقية الأرستقراطية.

هذه الرواية قادرة على حبس أنفاس قارئها إلى آخر لحظة، رغم عدم اهتمامها بالوصف الخارجي وتركيزها أكثر على الاستبطان، استبطان الشخصيات، وكلها شخصيات غير عادية، بل إن شخصية البطلة تحمل أربعة وجوه مختلفة كل منها له ثقافته ولغته ونمطه وطريقته في التعامل. استطاع الخشن أن يمد الخيط على طوله ووضع كل لبنة في مكانها راسماً الطابق فوق الطابق، وهو يعلم أنه بسبب خطأ تقني صغير، بسبب معلومة غير حقيقية، تتعلق بعلم النفس، أو بأنواع السم الفتاك وكيفية تخليقها من بذور الثمار، قد ينهار العمل فوق رأس القارئ وكذلك فوق رأسه هو شخصياً، ويدفنهما تحت الأنقاض. إنها رواية عن النفس البشرية وهي تبحث في عيون الآخرين عن حقيقتها، أو عن الطريقة التي تصدِّر بها صورة خاصة لها، وليس شرطاً أن تكون هي الصورة الواقعية أو الحقيقية. إنها رواية عن الطريقة التي يصبح فيها الماضي شبحاً يطارد حاضرنا وأحلامنا ويحولها إلى كوابيس لا تنتهي إلا بمواجهة هذا «الماضي»، وليس في يدك أي سلاح سوى شجاعتك وحدها، وقدرتك على الاقتناع بأنك قادر على هزيمة هذا الوحش العظيم بيد عارية.