ثقافة

منصورة عز الدين: الكتابة تنمو في الظل.. وحياة الكاتب الحقيقية تبدأ بعد رحيله

29 يونيو 2022
ترى أن فكرة الأضواء ملائمة أكثر لممثلي السينما والمطربين:
29 يونيو 2022

الكتابة مساحة لعب وتجريب واختبار آفاق جديدة وخوض مغامرة مختلفة كل مرة -

انحيازي دوما للكتابة انطلاقا من قناعتي الفنية وليس أي دافع آخر -

من المهم تقدير القارئ واحترامه لكن الأهم عدم تملقه -

هناك كُتَّاب يخصصون وقتا للدعاية والترويج أكثر من وقت القراءة والكتابة -

لدى منصورة عز الدين عالم كتابيّ يخصها شيدته على مدار سنوات طويلة عبر روايات ومجموعات قصصية، حصلت على جوائز مهمة، مثل جائزة أفضل رواية عربية عن معرض الشارقة عن روايتها «جبل الزمرد» عام 2014، وجائزة أفضل مجموعة قصصية من معرض القاهرة الدولي للكتاب في العام نفسه، عن مجموعتها القصصية «نحو الجنون».

وقد وصلت روايتها «ما وراء الفردوس» للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» عام 2010، كما وصلت مجموعتها القصصية «مأوى الغياب» إلى القائمة القصيرة لجائزة ملتقى القصة العربية في الكويت عام 2018. منصورة واحدة من الأصوات المميزة في الكتابة المصرية الحديثة وأكثرها نجاحًا من حيث المقروئية، والمتابعة النقدية والإعلامية، وكذلك المبيعات رغم أن كتابتها رصينة ولا تشبه كتابات «البيست سيللر» الرائجة. في هذا الحوار تتحدث منصورة عن رؤيتها للكتابة انطلاقًا من روايتها الحديثة «أطلس الخفاء».

آخر ثلاث روايات لك على التوالي «أخيلة الظل» و«بساتين البصرة» و«أطلس الخفاء» هي أعمال قصيرة، نوفيلات بشكل أدق. هل عالم الكتابة هو ما يفرض حجم العمل، أم أن لديك توجها خلال الفترة الأخيرة بكتابة أعمال قصيرة؟

عالم الرواية وطبيعتها هو ما يفرض هذا. لا أنشغل كثيرًا بحجم أي عمل أدبي لأن عدد الصفحات معيار غير فني ولا يليق بالإبداع أن نحكم عليه انطلاقًا من معايير غير فنية. كتابتي قائمة على محو وحذف أي زوائد. إن كان عالم الرواية شاسعًا ويحتمل مساحات حكي أرحب لا أضيِّقه قسرًا، وفي المقابل أتجنب الحشو والزوائد ما أمكنني هذا. من جهة أخرى، وبعيدًا عن الكتابة الروائية والقصصية، أكتب باستمرار شذرات ومشاهد قصيرة ويوميات موجزة، ليس بالضرورة بغرض النشر، وإنما لتجريب يدي في مناطق جديدة عليّ.

في «أخيلة الظل» الشخصيات تكتب بعضها ووسط لهاثنا خلفها لا نعرف ما الحقيقي وما الخيالي، وفي «بساتين البصرة» يشعر الأبطال أنهم أشخاص آخرون في زمن ما، فلا تعرف إن كانت الحكايات متوهمة أم واقعية، وفي «أطلس الخفاء» يضع البطل مراد قدمه في الحياة التي نعرفها وقدمه الأخرى في عوالم غريبة. هل تجدين الأدب في تلك المنطقة الضبابية التي تفصل بين ما نراه وما نتخيله؟

يستهويني الالتباس والمساحات البينية والرمادية أو الضبابية كما ذكرت. والكتابة بالنسبة لي مساحة لعب وتجريب واختبار آفاق جديدة وخوض مغامرة من نوع ما كل مرة. خلال عملية الكتابة أحتاج إلى تحديات ما للمواصلة، ولا يعني هذا بالضرورة أن هذه التحديات تتطلب تعقيدًا أو تركيبًا، إذ قد يكون التحدي أحيانًا في الوصول إلى أقصى درجة ممكنة من الانسيابية أو كتابة عمل بلا أحداث واضحة أو سرد أحداث حياة في حدها الأدنى.

لا يتمثَّل الالتباس فقط في المساحة بين الواقعي والخيالي أو الافتراضي أو بين الحلم والواقع وبين الذكريات والضلالات والهلاوس، إنما أيضًا في المساحة البينية بين الخير والشر وبين حتى الأنواع الأدبية وبعضها البعض.

مراد بطل «أطلس الخفاء» يعمل في الأرشيف وهي مهنة ظلٍّ، تجعل اصطدامه بالناس نادرًا، فكل حلمه أن يعيش وحيدًا وألا يزعجه الآخرون بحضورهم الثقيل، هل كان مراد يهرب من الوقوع في فخ الجنون؟

تأويلي الخاص أنه لم يكن مشغولا بالجنون من الأساس. الخوف من الجنون والرغبة في الهرب منه، على العكس تمامًا، قد تدفع إلى الاندماج بالناس والاحتماء بهم، وتكييف النفس مع المعايير المقبولة منهم. فخوفك من أن يصمك الآخرون بالجنون يضعك تحت سيطرتهم معنويًا بحيث تسعى لنيل رضاهم واعترافهم بك.

مراد رغب فقط في الابتعاد عن البشر ووضع مسافة بينه وبينهم وشيَّد عالمًا خاصًا به، عالمًا بدا لي أحيانًا كإعادة لترميم حياته وذكرياته وأحيانًا أخرى كمحاولة لسد ثغرات ذاكرة جمعية موغلة في القدم للوصول إلى التئام مستحيل بين الناجين والهالكين، بين من آمنوا وصدقوا وبين من تمردوا ورأوا ما لا يراه غيرهم.

هل كان يجب أن يمرض مراد ويفقد السيطرة على نفسه ويتصرف بشكل غريب حتى يتهمه العالم بالجنون؟ وهل الوحدة تحمي من البارنويا أم تصيب الإنسان بها كما حدث لمراد بعد خروجه على المعاش؟

كما تعرف، نحن لا نكتب ضمن قوالب ثابتة أو نماذج مسبقة. مراد شخصية فنية محملة بتناقضات وتاريخ شخصي يخصه وجماع من مشاعر معقدة، وبالتالي فمصيره له علاقة بكل هذه التفاصيل أو بفسيفساء شخصيته وظروفه. قد يمر شخصان بظروف متقاربة لكن تفاعل كل منهما معها يختلف باختلاف شخصيته وقوته النفسية أو هشاشته. وهناك نقطة أخرى، هو أن هذه الشخصية، رغم عزلتها، ابنة الظرف المجتمعي الذي تحيا فيه، هو كان يشعر منذ وقت أبكر بأنه تحت المجهر. وكل هذا ساهم في تحولاته من حال لآخر.

ما الذي يجذبك بهذه القوة إلى ثيمة الجنون التي تشكل سؤالك أو هاجسك الكتابي الأول؟ هل هو المصير المحتوم الذي يحاول الإنسان طوال حياته الهروب منه؟

أنا مشغولة بفكرة الهوية الشخصية منذ بدأت الكتابة، بل ربما حتى قبل أن أفكر في الكتابة. لطالما شغلتني أسئلة من قبيل: متى يتوقف الشخص عن أن يكون نفسه؟ وهل هذا ممكن من الأساس؟ وهل ثمة جوهر أو نواة ما للذات؟ وإذا كانت الهوية –كما أتصورها- عملا قيد الإنجاز، فهل ثمة عناصر ثابتة فيها وأخرى متحولة؟ وما موقع الأنا المسكونة بأنوات أخرى من هذا؟

وهذه الأسئلة وما يشبهها هي من أسباب اهتمامي بتيمات مثل: الجنون والحلم والذاكرة، فكل منها يمثِّل انزياحًا للذات إما عن حالتها المألوفة (كما في حالة الجنون والتباس الذاكرة) أو عن عالمها الواقعي المعتاد حتى وإن تماست معه (كما في حالة الأحلام).

لكن بما أن سؤالك عن الجنون تحديدًا، فلا شيء أكثر إلهامًا منه في رأييّ، فالتخلص من سطوة العقل والمنطق، أيا كانت الطرق المؤدية إلى ذلك، أوسع الأبواب لتحرير الخيال. تجليات الجنون وصوره وأطيافه متعددة في كتابتي، هو موضوع تحت المجهر وفي موضع التساؤل والتشكك سواء من جانب شخصياتي الفنية أو من جانبي: «فكرتُ في أن الجنون هو الغياب التام للموجودات الخارجية والغرق في الذات، ثم غيرت رأييّ. قلت بصوت مرتعش: بل هو الحضور المكثف للعالم بأدق تفاصيله وأبسط همساته مع تلاشي الذات. الجنون قلب راءٍ لما يعجز الآخرون عن رؤيته. عجز يقودهم إلى تكذيب الرائي ووصمه بفقدان العقل [...] لم أفقد عقلي بل العالم هو ما جُنَّ وأمعن في جنونه. لم يعد هناك شيء كما كان. وخطيئتي أنّي رأيت، أنّي عبرت الخيط الفاصل وأبصرت الوجود عاريًا مهلوسًا وبلا معنى». هذه الفقرة على لسان إحدى شخصيات كتابي «مأوى الغياب»، قد تصلح كمفتاح لفهم ما قصدته بالتساؤل ووضع مفهوم الجنون تحت المجهر.

تجذبني أيضًا فكرة استخدام الجنون كآلية للطرد والإقصاء والتهميش سواء على المستوى المجتمعي أو على مستوى جماعات أضيق. في روايتي «متاهة مريم» صارت صوفيا في مرحلة جنونها امرأة أخرى لا علاقة لها بالمرأة الجميلة التي كانتها شبابها، وفي «وراء الفردوس» تحيا بدر على هامش مجتمع القرية بلا اعتراف بآدميتها حتى، وفي «أطلس الخفاء» تكف الجدة خديجة عن أن تكون الشيخة مرهوبة الجانب بمجرد إصابتها بخرف الشيخوخة وتفقد اسمها نفسه.

النباتات والزهور والأشجار تمنح أعمالك ومنها «أطلس الخفاء» ظلالا وروائح وألوانا مميزة. هل نشأتك في دلتا مصر هي ما يقف خلف ولعك الكبير بها؟

البيت الذي وُلِدت كان مفتوحًا على بستان خوخ مثَّل ملعبي الأول مع أطفال العائلة. بين الأشجار زُرِعت أعشاب وخضروات. تخيل أن يتفتح وعيك على بستان مزهر بالكامل بزهور الخوخ الوردية الهشة مطلع كل ربيع، وتتجول فيما بعد بين أشجاره لتكتشف المخفي تحت أوراقها من ثمار ناضجة لا تمنح نفسها للعين من النظرة الأولى. المسألة ليست جمالية فقط، لكنها بالأساس تمنحك طريقة مختلفة للرؤية والتفكير، حيث إن ما تراه مقرون بسعيك وما تصل إليه مشروط بقدرتك على الاكتشاف والبحث في ما وراء الظاهر والجلي.

والفضاء الأوسع من البيت وحديقته، لم يختلف كثيرًا، إذ امتدت بساتين شاسعة على ضفتَي النيل، قبل أن تتغير طبوغرافيا المكان لاحقًا. في فضاء مثل هذا يتجاور الرائع والمريع بمنتهى البساطة، فإن كانت البساتين المزهرة والمثمرة هي الصورة الأولى والأقرب للفردوس أو الجنة، فلكل جنة لا بد من حيّة ما. هذا ما يعلمنا إياه اتصالنا بالطبيعة في سن مبكرة، والطبيعة خير معلم، أو على الأقل كانت كذلك في حالتي. أن ترى شجرة رمان مزهرة أو مثقلة بثمارها ومحاطة بحشائش زاهية الخضرة، لكنك تدرك أن هذه الحشائش تخفي بداخلها ثعبانًا مثلا، أو ألّا تستبعد وجود حرباء متخفية بين عناقيد العنب. إضافة إلى مساهمة هذا في رؤية ما حولك على نحو أكثر تركيبًا، هو أيضًا ينشط الحواس.

أنا كاتبة حسية، يهمني القبض على الروائح والألوان والأصوات وتجسيد ملمس الأشياء، لكنني لا أعرف إن كانت هذه الحسية في تكويني نتيجة نشأتي في بيئة مماثلة أم أنها هي ما أتاح لي التفاعل مع هذه البيئة والتأثر بها لهذه الدرجة؟

كتابتك لا تقدم نفسها بسهولة بسبب تقنيات الكتابة وكذلك بسبب اللغة المنحوتة والتخييل وألعاب الزمن.. هل الحرفية الزائدة أحيانًا في الكتابة قد تقلل من انتشار الكاتب؟

هل مطلوب من الكاتب ألّا يهتم بلغته مثلًا أو ألّا يسعى لتجويد نصه كي ينتشر؟ لا أتفق مع هذا، أو بالأحرى حتى بفرض أنه صحيح، فانحيازي سيكون دومًا للكتابة انطلاقا من قناعاتي الفنية وليس انطلاقًا من أي دافع آخر، خاصة الرغبة في الانتشار. أنا سعيدة طبعًا بانتشار أعمالي وبصدور طبعات عديدة منها وبالاهتمام النقدي بها منذ عملي الأول، لكن خلال عملية الكتابة أحاول قدر الإمكان عدم الانشغال بالتلقي.

اللافت للنظر أن التخوفات أو الافتراضات الخاصة بدوائر المقروئية يتبناها الكُتَّاب أنفسهم أكثر مما تعبر عن طبيعة القراء وتفضيلاتهم. الدراسات والإحصاءات الخاصة بالقراءة شبه منعدمة في العالم، لكن المبشر أن هناك إقبالًا على أعمال جيدة ومغامرة ومكتوبة بإتقان. ليست هذه هي القاعدة، لكنه أمر موجود ومتكرر.

لماذا تعتبرين «أطلس الخفاء» امتدادا لـ«بساتين البصرة»؟

هي مختلفة عنها تمامًا من ناحية العالم وتقنية الكتابة واللغة، لكن الرابط هو أن شخصية مراد واردة بشكل عابر في «بساتين البصرة» باعتباره شقيق ليلى؛ إحدى شخصيات الرواية وأم بطلها هشام خطاب. لا نعرف عنه أكثر من كونه الشقيق الذي تشتاق إليه شقيقته في سنواتها الأخيرة، لكن في «أطلس الخفاء» نعرف قصته وشخصيته وهواجسه عن قرب، وتظهر ليلى وأمها وجدتها خديجة كأطياف من ماضيه. قراءة الروايتين إحداهما بعد الأخرى يلقي ضوءًا جديدًا على كليهما، لكن يمكن قراءة كل رواية على حدة أو حتى البدء بـ«أطلس الخفاء» أو قراءتها وحدها؛ لأنها رواية مستقلة وقائمة بذاتها.

ننتقل إليك أنت.. حصلت على جوائز وأصبحت معروفة على نطاق كبير هل شعرت مع الأضواء المسلطة عليك في بعض الأوقات بالانزعاج؟ وهل الكاتب ينبغي أن يعود إلى الظل دائما؟

باستثناء الندوات التي أشارك فيها من وقتٍ لآخر سواء في مصر أو خارجها، لا أكاد أظهر في أي مناسبة عامة. فكرتي عن نفسي خاصة بامرأة حياتها العامة محدودة، وتقضي ساعات يومها إما في القراءة أو الكتابة والاعتناء بأسرتها. تلك الأخرى التي تظهر في المناسبات العامة أحيانًا لا تمثلني كثيرًا. وأتذكر أن ابني شاهدني مَرّة في برنامج تلفزيوني، على الهواء، وهو في الثالثة تقريبًا، وحين عدتُ للبيت بعد التسجيل عرفت هذا لأنه كان يردد اسمي كاملًا لأول مرة. ببراءة سنواته الأولى فصل بيني كأم له وبين المرأة التي شاهدها تتحدث على الشاشة كما لو أنه دور أؤديه، واعتاد أن يقول لي كلما هممت بالخروج من البيت: «أريد أن أكون معك وأنتِ منصورة عز الدين»، وفهمت وقتها أن ما يعنيه هو رغبته في حضور ندوة أو مناسبة عامة أشارك فيها بشخصيتي الأخرى غير المألوفة له والبعيدة عني في حياتي اليومية.

ولن أبالغ إن قلت إن أفضل سنواتي مع الكتابة كانت الفترة التي امتنعت فيها تمامًا عن السفر والخروج إلّا للضرورة من 2012 حتى 2018. لهذا يربكني سؤالك، وأجدني أسأل نفسي: أي أضواء يقصد؟ وأنا هنا لا أقصد إطلاقًا عدم الامتنان للاهتمام الذي تحظى به أعمالي، لكن فكرة الأضواء أراها ملائمة أكثر لممثلي السينما والمطربين. الكتابة تنمو في الظل، وحياة الكاتب الحقيقية تبدأ، إن كان لها أن تبدأ، بعد رحيله.

على الفيسبوك تنشرين كثيرا من لوحات الفن التشكيلي وعلى تويتر تقدمين بعض قراءاتك في الكتب العالمية. هل الكاتب عليه دور بنشر الفن حتى من خلال وسائل التواصل الاجتماعي؟

أحب مشاركة ما يستهويني وما أتحمس له مع الآخرين. اعتدت منذ صغري الحديث عن الكُتَّاب والممثلين والأعمال الفنية التي تلفت نظري كأنني أُبشِّر بهم وبها. أفرح حين أكتشف لوحة جميلة أو كتابًا مدهشًا أو كاتبًا مختلفًا، وأشارك هذا الاكتشاف مع الآخرين بلا تردد. وأحب متابعة من يفعلون الشيء نفسه، فكثير من قراءاتي في السنوات الأخيرة، خاصةً لكُتَّاب غير معروفين عربيًا وصلت إليها من خلال متابعتي لاقتراحات من حسابات تكتب عن أعمال أدبية مفضلة.

كانت هناك صعوبة قديماً في تخيل وجود علاقة مباشرة بين الكاتب والقارئ.. واليوم صارت هذه العلاقة بديهية مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات القراءة والتفاعل. ما الذي تغير في الكاتب والقارئ؟

التواصل صار أسهل ولم تعد هناك مسافة، وأصبح للقارئ سلطة أكبر، وحلّت مجموعات القراءة على مواقع التواصل الاجتماعي محل النقد في كثير من الأحيان. من الجيد أن يعبر القراء عن آرائهم بحرية تامة، ما دامت ناتجة عن قراءة للعمل ولا تخضع لحسابات خارج المعايير الفنية. ومن المهم تقدير القارئ واحترامه، لكن الأهم عدم تملقه، أو السعي لإرضائه على حساب انشغالات الكاتب وأسئلته ورؤاه الفنية. ثمة فارق كبير بين الكاتب المهموم بقضايا معينة وبكتابته نفسها: كيفية تطويرها والإضافة إليها وبين الكاتب المنشغل بالأساس بالجري خلف الرائج والجماهيري مضحيًا بجماليات الكتابة وبقناعاته الفنية والفكرية.

هناك كُتَّاب يخصصون وقتًا للدعاية والترويج أكثر من الوقت الذي يخصصونه للقراءة والكتابة. هم أحرار طبعًا، فلكل منا اختياراته وأولوياته، لكنني أفضل الكاتب المنشغل أكثر بكتابته، وأرى أن أي حضور للكاتب بمعزل عن نصه، لا يُعوَّل عليه.

هل تصلك رسائل مزعجة من قراء أحيانًا؟ وما أكثر رسالة أحببتها؟

لا رسائل مزعجة، الإزعاج الوحيد الممكن ينبع من الإجحاف والشخصنة، ومَن يفعل هذا لا يرسل رسائل عادةً. هناك رسائل طريفة كأن يُعامِل قارئ ما شخصية فنية كما لو كانت حقيقية ويسألني عن تفاصيل تخصها خارج الرواية. بالنسبة للرسائل التي أحببتها، فهي كثيرة، ويرجع أقدمها إلى بداية عهدي بالفيسبوك حين أرسل لي قارئ لا أعرفه قراءة مبتكرة جدًا لـ«متاهة مريم» انطلاقًا من الصوت وعلاقة الرواية وشخصياتها به، وهذه زاوية لم تكن قد خطرت لي قبلها. تصلني أحيانًا صور لأشجار خوخ مزهرة أو بيت قديم مهجور يكتب مرسلوها أنها تذكرهم بي أو بعمل لي، ومرّة أرسل لي قارئ أسترالي توصية بقراءة كتاب وهو واثق من أنه سيعجبني وحتى الآن لا أعرف على أي أساس بنى ثقته هذه؟! وربما يكون أفضل إطراء وصلني في رسالة هو ذاك الذي كتب لي صاحبه أنه ينوي تعلم اللغة العربية كي يقرأ أعمالي غير المترجمة.

ما أقدم حكاية تتذكرينها عن شخص جعلك تحبين الأدب ومتى عرفتِ أنك ستصبحين كاتبة؟

أحببت الأدب منذ تعلمت القراءة، إذ بدا لي تحول الحروف من رموز مستغلقة إلى كلمات لها معنى أمرًا سحريًا. بدأت بقصص الأطفال وبروايات الجيب البوليسية، وبالتوازي معها تعرفت بالصدفة وأنا في المرحلة الابتدائية على مقالات لويس عوض في جريدة الأهرام، ومن بينها سلسلة مقالاته عن الثورة الفرنسية وعن أعمال أدبية إنجليزية وفرنسية. أتذكر حتى الآن تأثير تلك المقالات عليّ، كانت أشبه باكتشاف عالم آخر جديد تمامًا. في المرحلة الإعدادية، أسهم أكثر من مدرس في تشجيعي مع زملائي على القراءة. منهم أستاذ ولاء مختار مدرس اللغة الإنجليزية الذي فتح أمامنا عالم نجيب محفوظ مبكرًا بإهدائنا رواياته كمكافأة على التفوق في الامتحانات الشهرية، والأستاذ محمد العزب، مدرس الإنجليزية أيضًا الذي شجعني حين قرأ قصائد أولى كتبتها وأهداني كتابًا عن العروض وكتبًا أدبية أخرى، وأمين مكتبة المدرسة أستاذ عبد اللطيف، خريج قسم اليوناني واللاتيني بكلية الآداب، الذي حكى لنا الإلياذة كاملة ونحن في الصف الثاني الإعدادي وكان يسمح لي باستعارة الكتب الممنوع استعارتها من مكتبة المدرسة، حين لاحظ شغفي بالقراءة والأدب.

بالنسبة للجزئية الثانية من سؤالك، فهذا أمر لم أعرفه إلّا لاحقًا، لكن ثمة لحظة مفصلية بالنسبة لي حين كنت في الصف الرابع، وسألني المدرس الجديد عن مهنة والدي. ترددت للحظات ثم قلت له مهنة ما. نظر الرجل لي بدهشة، لكنه لم يعلق على التباين بين المهنة البسيطة التي ذكرتها وبين مظهري المهندم. لم أكن أعرف: ما معنى الكلمة التي نطقت بها؟ أو ماذا يفعل العاملون بها بالضبط؟ ولا أتذكر أيضًا من أين التقطتها؟ كل ما أعرفه أنها بدت لي فخمة ومتفردة بما يفوق التصور.

في نهاية اليوم الدراسي، سألتني صديقتي المقربة بغضب: لماذا كذبتِ على المدرس؟

لم أعرف كيف أرد عليها، ولم أعتبر أنني كذبت حين اخترت المهنة اعتباطًا. كنت وقتها قد بدأت لتوي الوقوع في غواية الكلمات بغض النظر عن الحقيقة.

ما يلفت نظري، حين أستعيد هذا الحدث، أن صديقتي اعترضت على اختياري لمهنة غير مناسبة من وجهة نظرها، ولم تعترض على أنني لم أعترف للمدرس بموت والدي، وهو ما قمت به عن قصد، كأن في الموت ما يُخجِل ويشين! لم تعن لي تلك اللحظة الكثير وقتذاك، لكنني حين أستعيدها الآن، أدرك أنه كان ينبغي عليّ، إن كنت أكثر وعيًا، أن أدرك أن علاقتي بالكتابة قد بدأت في تلك اللحظة بالذات - هذا إن كانت هناك لحظة بعينها يمكن اعتبارها نقطة البدء للكتابة - فالأدب ينطلق من رفض الواقع ومن ابتكار سيناريوهات بديلة له، والوقوع في غواية الكلمات واللعب بها ومعها واختلاق حقائق موازية من سماته.

ما أحب أعمالك إلى نفسك ولماذا؟ وهل هناك عمل تشعرين بأنك تريدين كتابته مرة أخرى؟

كل عمل كتبته جزء من ذاتي ونبع من انشغالاتي ومما يؤرقني، وكل منها أخذ مني وقتًا ومعايشة بحيث أشعر إن نظرت للخلف كأنني هو وكأنه أنا، على الأقل في فترة كتابته. «بساتين البصرة» مثلا عاشت فكرتها معي لأكثر من عشرين عامًا قبل كتابتها، و«أطلس الخفاء» تعاطفت مع بطلها لدرجة التماهي، و«أخيلة الظل» تتماس عميقًا مع ذاتي ومع رؤاي الجمالية والفكرية، أما «مأوى الغياب» فأعتبره تميمة وتعويذة ذاتية. لا أتكلم هنا عن حكم قيمة أصدره لصالح هذه الأعمال، أقصد فقط الرابطة الوجدانية بيني وبينها.

بالنسبة للشق الثاني من سؤالك، أتجنب قراءة أعمالي بعد نشرها ما استطعت ربما تجنبًا لرغبة محتملة في الهدم وإعادة البناء، لكن يحدث في حالة القصص القصيرة تحديدًا أن أشعر بعد نشر قصة ما في كتاب أن عالمها أوسع مما كتبت وأنها تحمل بداخلها بذرة رواية. ثمة قصة في مجموعة «نحو الجنون» كتبتها على أنقاض واحدة من قصصي الأولى، التي لم تُنشَر في كتاب، ومنذ نشر «نحو الجنون» (2013) يخطر لي العودة إلى هذه القصة في وقتٍ ما للاشتغال على الرواية المخبوءة فيها. ربما لن تصدقني إن قلتُ لك إن هذه الرواية تبدو كما لو أنها مكتوبة بداخلي، لكنها أشبه ببناء مغطى بالضباب، ويحتاج فقط إلى أن يتجسد بشكل أوضح عبر التدوين.

ما العمل العالمي الذي كنت تتمنين أن تكوني صاحبته ولماذا؟

لا يوجد عمل تمنيت أن أكون كاتبته، لكن هناك سمات في كُتَّاب بعينهم أو نصوص بعينها أقدرها وأتمناها. على سبيل المثال، أرسل لي الكاتب ياسر عبد الحافظ أثناء إقامته الأدبية في الولايات المتحدة نصًا قصيرًا بعنوان «السنجاب الأعمى» لمعرفة رأيي فيه، وبمجرد الانتهاء من قراءته، كان أول ما خطر ببالي أنني أحب أن أكتب بهذه الرشاقة والخفة (بمعناها الإيجابي)، أن أغوص في أعماق ذاكرتي وعلاقتي بالعالم انطلاقًا من لا شيء تقريبًا؛ انطلاقًا من سنجاب يحدق نحوي -من الجهة الأخرى للشارع- بنظرة عمياء.

ومن هذه السمات أيضًا قدرة خابيير ماريّاس مثلا على تحويل الاستطرادات، التي قد تكون نقطة ضعف أو خللا في الكتابة عند غيره، إلى سمة أسلوبية تضيف إلى كتابته ولا تنتقص منها. ومهارة دانيلو كيش في تحويل أي شيء، بما في ذلك الوثائق والقوائم والإحصاءات المملة، إلى فن. هذه مجرد أمثلة.

وأخيرا ما هو حلمك للكتابة؟

أن أظلّ أكتب كل عمل جديد كأنه عملي الأول.