No Image
ثقافة

مقصورتان من الشعر العماني في نظم سور القرآن

20 أبريل 2024
20 أبريل 2024

«المقصُورة»: هي القصيدة المُقفَّاة، تنتهي بألف غير ممدودة، وعرف الأدب العربي قصائد مقصورة كثيرة، أشهرها وأطولها مقصورة العالم اللغوي والأديب أبوبكر ابن دريد، التي اشتهرت باسم: «مقصُورة ابن دريد»، عدد أبياتها 254 بيتًا، تبدأ بهذا المطلع:

يا ظبيةً أشبهَ شيءٍ بالمَها

ترْعَى الخُزامى بين أشْجارِ النَّقا

إمَّا تَرَىْ شَعْرِي حَاكى لونُه

طُرَّتَ صُبْحٍ تحت أذيالِ الدُّجَى

واشتعَلَ المُبيَضُّ في مُسوَدِّهِ

مثلَ اشتِعالِ النَّارِ في جَزْلِ الغَضَا

قصيدة طويلة، تتناغم أبياتها على إيقاع بحر الرَّجز، وتعاقب على شرحها كبار الشراح، وكتبوا فيها مؤلفات، وفي مكتبتي نسخة من شرح محمد بن أحمد بن هشام اللخمي (ت: 577هـ)، ومنذ ظهور المقصورة الدُّريديَّة، حاول كثير من الشعراء معارضتها، وتخميسها وتوشيحها وإعرابها وترجمتها وشرحها، وما تزال محاولاتهم تتكرر إلى اليوم، شأنها شأن بعض القصائد الأخرى الشهيرة، التي تمثل ذؤابة الشعر العربي، كبُرْدة كعب بن زهير: (بَانَتْ سُعادُ فَقَلبِي اليوْمَ مَتبُولُ) ونهج البردة للإمام البوصيري: (أمِنْ تَذَكُّرِ جِيرانٍ بِذِي سَلَمِ)، وكلاهما من عيون شعر المديح النبوي، والشعراء يجارون القصائد العيون، بغية التقرب من شأنها، لاختبار ملكاتهم الشعرية، وتوظيف قاموسهم اللغوي، وغرس المعاني البيانية في قصائدهم.

وفي التجارب الشعرية العمانية، ظهرت قصيدتان شعريتان، امتازتا أنهما من شعر المقصور، والميزة الثانية أنهما نَظمَتا سور القرآن الكريم، بترتيب المُصحَف الشريف، من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، وهما للشاعرين الشيخين: أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني (ت: 1920م)، وسيف بن سعيد الكمياني النزوى (ت: 2013م)، ولفرادة هاتين القصيدتين، وبراعة نظمهما، وعدم تسليط ضوء الكتابة عليهما، أخصِّص هذه المقالة.

1 - مقصورة أبو مسلم: ليس بغريب على الشاعر «أبو مسلم البهلاني»، أن ينظم سور القرآن الكريم في مقصورة شعرية، لتجربته الكبيرة في كتابة شعر السلوك، والتوسل بأسماء الله الحسنى، وديوانه: «النَّفَسُ الرَّحْمَانِي» شاهد على ذلك، وفي كتابة شعر المقصور، له تجربتان أحدهما وهي الأشهر، المقصورة الطويلة، يبلغ عدد أبيتها: 393 بيتًا، وبلغت من البيان الشعري ذروة سالت لها أقلام الشراح، كالشيخ منصور بن ناصر الفارسي (1975م)، حيث كتب فيها شرحًا وافيًا، نشره في كتابه «الدُّرَرِ المَنثورَة في شرح المقصُورة»، ووعتها الصدور تعليمًا وحفظًا، مطلعها:

تلكَ رُبُوعُ الحَيِّ في سَفحِ النَّقا

تَلُوحُ كالأخْلالِ مِنْ جَدِّ البِلى

أخْنَى عليها المِرزَمانِ حِقبَةً

وعَاثَتِ الشَّمألُ فيها والصَّبا

وله مقصورة أخرى لم تحظ بتلك الشهرة الواسعة، التي حظيت بها المقصورة الطويلة، وتختلف اختلافًا كليا عن سابقتها، وهي التي نعنيها بالذكر في هذه المقالة، فهي أولا في نظم سور القرآن الكريم، وهو ما لم يشر إليه الشارح الأديب والشاعر محمد الحارثي إلى هذه البراعة، رغم أنها من ضمن القصائد التي نشرها في كتاب: «الآثار الشِّعرية لأبي مسلم البهلاني»، الصادر عن دار الجمل عام 2010م في مجلد واحد، لعله لم يقف على النسخة من ديوان أبي مسلم، الصادرة عام: 1346هـ/ 1928م، عن المطبعة العربية بمصر، والتي عُنِيَ بنشرها الشيخ يوسف توما البستاني، صدرت النسخة بعد وفاة البهلاني بثماني سنوات.

وما يعنينا هنا التقديم الذي تصدَّر قصيدة «المقصورة» القصيرة، وتقع في 118 بيتًا، وهو ما نصه: (مقصورة مرتبة على سور القرآن الكريم، نظمها وقدمها مستشفعا بها، لدى عظمة السلطان حمد بن ثويني بن سعيد، عم عظمة سلطان زنجبار خليفة بن حارب بن ثويني ..)، تكمن أهمية هذا التقديم في الإشارة إلى أن القصيدة مرتبة على سور القرآن الكريم، وأن الشاعر كتبها مستشفعًا بها لدى السلطان حمد، وهو ما لم يشر له الأستاذ محمد الحارثي، ولربما لم ينتبه له، فقد وردت أسماء السور ممتزجة بمفردات البيت، وذابت في معاني القصيدة، بدءا من مطلع القصيدة القائل:

«فاتِحَةُ الحَمْدِ» أيَادِي مَنْ عَفَى

والحِلْمُ أصْلٌ للمَقاماتِ العُلا

يزْدَهِرُ المَجْدُ بـ«زَهْراوَيْهِما»

مثلُ انجِلاءِ الشَّمْسِ فِي رَأدِ الضُّحَى

ما نَتَجَتْ مَنْ يَعرِفُ المَجْدَ «النِّسا»

لوْ كانَ خُلوًا منهُما عَمَّنْ عَصَى

«مائِدَةُ» الاحْسانِ مِنْ باسِطِها

فَضْلٌ وأزْكَى الفَضْلِ ما يُولِى الرِّضَا

بل فسر خطأ معنى مفردة صِحَاب «الحِجْر»، في بيت المقصورة، في بيت رقم: 14، القائل:

مَنْ غادَرَتْ هيبَتهُ أعْداؤُهُ

مِثلُ صِحَابِ «الحِجْرِ» صَرْعَى في الفَلا

يقول الحارثي في إشارة شارحة للبيت: (حتى في مدائحه، لا يتوقف أبو مسلم عن تلقط هذه الإشارات التاريخية، بإلحاح مثير للتساؤل؛ فالحِجْرُ: هو حِجْرُ بن عدي الكندي، من أصحاب الإمام علي بن أبي طالب، قتله معاوية صَبرًا، وقيل هو أول من قُتلَ صبرًا في الإسلام، وهو صحابي، وقبره بغوطة الشام: (الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني: ص814).

وبرأيي هذا غير صحيح، لأن الشاعر ذكر اسم سورة «الحِجْر»، التي تأتي بعد سورة «إبراهيم»، برمزية اسم السورة، ودلالاتها البيانية، والدليل على ذلك قول الشاعر في بيت سابق:

مَنْ فَضْلُهُ في فَضْلِ كُلِّ أمَّةٍ

كَمِثلِ «إبراهيم» فيمَن قدْ خَلى

وفي البيت الذي يليه يقول:

مُسَوَّمُ الجِرْدِ العَوادِي عندها

مِثلُ لُعَابِ «النَّحْلِ» مَسفُوحَ الطَّلا

إشارة إلى سورتي «إبراهيم» و «النحل»، وهكذا تتالى أبيات القصيدة، ومعها أسماء سور القرآن الكريم، في نظام لا يخرج بيت عن آخر، سكب فيه أبو مسلم شيئا من صفاء عبقريته، وأبدع نظمها، دون أن يشذ بيت عن سابقه أو لاحقه، لتأتي القصيدة صرحًا واحدًا، في بيان يؤكد على عبقرية أبو مسلم، وموهبته الفذة التي لا تُجَارى، وإن كنت لست مع هذا المديح المبالغ فيه، ولكن لا أحد يعلم بالحاجة التي وقع فيها أبو مسلم حينذاك الوقت، ولذلك لا نعلق على مديحه واستشفاعه بسور القرآن، لأنا لا نعرف ظروف كتابته للقصيدة، إنما ننظر إلى بيانها الرفيع، وإشراقات المعاني المخبوءة بين أبياتها.

2 – مقصورة الكمياني: المعلم النحوي، الشيخ سيف بن سعيد بن علي الكمياني، كلما خطرت ذكراه على البال، تذكرته وهو يخرج من جامع القلعة بنزوى، بدشداشة ومصر أبيض، فقد عمل الشيخ معلمًا لعلوم العربية لسنوات طويلة، وفي السنوات الأخيرة من عمره فقد بصره، وأوجد مجلسًا أدبيًا في بيته يلتقي فيه ببعض من طلبته وأصدقائه وجيرانه، مستعيدًا مهنة التدريس التي مارسها، وقد صدر للشيخ سيف ديوانًا طبع عام 2015م، بعد وفاته بعامين، بعنوان: «اللآلئ المهذبة في الأسئلة والأجوبة»، يتضمن بين صفحاته مقصورة، مرتبة على سور القرآن الكريم، أسماها: «النفحات الوهبية في التوسل بالسُّور القرآنية»، عدد أبياتها 131 مطلعها:

«فاتِحَةُ الحَمْدِ» بها رَبُّ السَّمَا

أدْعُوهُ كشْفَ الضُّرِّ عَنَّا والبَلا

ثم بـ«زَهْراوَيْهِمُ» أدْعُوكَ يا

مَنْ وَسِعَ الأكوانَ نُوْرًا وَهُدَى

وبـ«النِّسَا» يا خَالقَ الخَلقِ اسْتَجِبْ

دُعَاءَ مُضْطَرٍ ونِعْمَ المُرْتَجَى

«مائِدَةٌ» يا مَنْ دَعَاهُ عَبدُهُ

عيسَى بإنزالِ لها يا ذا العُلا

وواضح من بنية القصيدة أن لغة النظم يطغى عليها، وكأن الشاعر كان متكلفًا في نظم أسماء سور القرآن، مستجديًا ذائقته الشعرية في التوسل والتضرع والدعاء بها، وقد تبدو بعض الأبيات متناسقة النظم، وفي بعضها ضعف بياني، وإن كانت القصيدة موزونة عروضيًا على بحر الرجز، ولنقارن بين أبيات أبي مسلم الأبيات السابقة، التي تتناول نظم سور: إبراهيم والحجر والنحل، وبين نظم الكمياني لهذه السور، يقول الكمياني:

وبالخَليلِ عَبْدُكَ الطيِّبُ «إبرَاهِيمُ»

نِعْمَ العَبْدُ نِعْمَ المُنْتَمَى مَنْ قَدْ جَعَلتَهُ أبًا للمُسْلِمِينَ

واصْطفَيتَهُ خَليلًا مُرْتَضَى

يا رَبُّ بـ«الحِجْرِ» اقْصِمِ الأعْدا وَمَنْ

أرَادَ كيْدًا وَأذِقْهُ ما جَنَى

مَوْلايَ مَنْ أوْحَى إلى «النَّحْلِ» بأنْ

مِنَ الجِبالِ اتَّخِذِي بَيْتًا يُرَى

واضح أن الشيخ كان متكلفًا في نظمه، ولم يكترث بإضفاء مسحات بيانية على قصيدته، فأغلب ديوانه نظم تقليدي، ويظهر من قصائده أن ملكته الشعرية متواضعة أمام ملكة أبي مسلم الفذة، مختتما قصيدته، ببيتين يصوِّر فيهما سجع البلابل في أغصان الأشجار، وشدو صوت مرتل القرآن يقول:

ما سَجَعَتْ بَلابِلُ الأيكِ عَلى

غُصُونِ بانٍ في الظِّلالِ والرُّبَى

وما شَدَا شَادٍ بصَوْتٍ مُطْرِبٍ

يَتلو كِتابَ اللهِ صُبْحًا وَمَسَا.