663
663
ثقافة

مرفأ قراءة... نجيب محفوظ و«غزليات» الشيرازي!

03 مايو 2021
03 مايو 2021

إيهاب الملاح -

- 1 -

كل من قرأ رائعة نجيب محفوظ «ملحمة الحرافيش» (ومن قبلها درته السردية المدهشة التي لم تحظ بما تستحقه من شهرة وقراءة وتحليل؛ أقصد عمله الفذ «حكايات حارتنا» الذي يخلط الكثيرون جدًّا بينه، وبين سرديته الأشهر «أولاد حارتنا») استوقفته الأبيات التي نثرها على امتداد ملحمته الروائية، مكتوبة بحروفٍ عربية، لكنها ليست عربية بل فارسية! وكل من قرأها لم يفهم منها شيئا ولم يعرف -إلا الأقلون- ماهيتها ومغزاها والغرض منها!

لكن محفوظ لا يترك أبدًا شيئًا للصدفة، ومهما كان حريصًا على إخفاء صنعته، وعدم إبداء أبجديات بنائه لأي عملٍ من أعماله (رواية أو قصة أو حوارية أو نصا قصيرا)، فإنه وببراعة ومهارة واقتدار ينثر إشارات وعلامات في نصوص أخرى يمكن عن طريق جمعها وتتبعها وتحليلها الوصول إلى أبعد مما يوحي نصه ظاهرًا بكثير جدًّا.

ولكي نحل اللغز ونفك شفرات هذه الأبيات الغامضة ودلالتها ضمن شبكة البناء السردي للحرافيش، فلابد من العودة إلى الجذور؛ جذور التكوين الثقافي والأدبي في حياة محفوظ والمؤثرات الأولى التي لعبت دورها في تشكيل فكره ووجدانه (على سبيل المثال؛ التراث الفرعوني، والأدب العربي والتراث القصصي الديني.. إلخ)

- 2 -

قرأ نجيب محفوظ في مستهل حياته روائع الأدب الإنساني كلها؛ وكان من أكثر الأدباء تنظيما ووعيا بضرورة وضع خطة قراءة دقيقة، ومستوعبة للإلمام والاطلاع على روائع التراث الإنساني، في كليته وشموله، قراءة تقوم على الاختيار الواعي والدأب المثابر والصبر على التحصيل والاستيعاب.

من بين ما نثره محفوظ في أحاديثه وحواراته على كثرتها إشاراتٍ معدودة، لكنها قاطعة وحاسمة لعلاقته بالشعر الفارسي والتصوف الإسلامي؛ قال محفوظ ما معناه إنه يكاد يعتبر ديوان حافظ الشيرازي «أغاني شيراز أو غزليات الشيرازي» أعظم كتاب قرأه في حياته؛ وأنه يكاد لا يفارقه! وعبر محفوظ عن افتتانه بحافظ الشيرازي، وقال عن ديوانه إنه واحد من خمسة كتب لا تفارقه أبدًا!

تخرج محفوظ في كلية الآداب قسم الفلسفة عام 1934؛ وكان ضمن الرعيل الأول أو الثاني من أبناء الجامعة المصرية الذين تخرجوا في قسم الفلسفة. في ذلك الوقت كان المميز طه حسين يمارس دوره التنويري المشع، ويبتعث إلى الجامعات الأوروبية المختلفة، ومن كل التخصصات، الطلاب النابهين والمتفوقين كي يستكملوا دراساتهم العليا، ويحصلوا على درجات الماجستير والدكتوراه من كبرى الجامعات في العالم.

كان من بين العشرات الذين ابتعثهم طه حسين للخارج، وبالتحديد إلى مدرسة الدراسات الشرقية بلندن المرحوم د.إبراهيم أمين الشواربي؛ أحد أنبغ الطلاب الذين تخرجوا في قسم اللغات الشرقية بكلية الآداب جامعة القاهرة؛ وابتعثه طه حسين إلى بريطانيا للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه في الأدب واللغة الفارسية.

لم يخيب أمين الشواربي ظن أستاذه ونال درجاته العليا؛ الماجستير والدكتوراه، بكفاءة واقتدار، ثم وبعد أن تخصص في دراسة شاعر الغزل والتصوف الأشهر حافظ الشيرازي، عكف لسنواتٍ طويلة على ترجمة درة الشعر الفارسي والتصوف الإلهي (لا أقول في الثقافة الإسلامية فقط بل في التراث الإنساني كله) وهو الديوان المشهور بـ «أغاني شيراز أو غزليات الشيرازي» لأمير شعراء فارس قاطبة حافظ الشيرازي.

والشيرازي لمن لا يعلمه هو الشاعر والمتصوف شمس الدين محمد حافظ الشيرازي (نحو 725 - 792 هـ) الملقب بـ«خواجه حافظ الشيرازي»، والشهير بـ«لسان الغيب» وهو من هو في مدونة وسجل الشعراء الإيرانيين؛ يعتبر أشهر شعراء الفرس الغنائيين. كان مولده ووفاته بشيراز. لقب بـ «حافظ» لحفظه القرآن الكريم بقراءاته الأربع عشرة. له أشعار بالفارسية والعربية، وتُرجمت أشعاره إلى كثير من اللغات العالمية.

- 3 -

و«أغاني شيراز» أو «الغزليات» هي أشهر وأكبر وأهم أعماله؛ ترجمت إلى أغلب لغات الدنيا، ولم تكن ترجمت إلى العربية حتى تصدى المرحوم إبراهيم أمين الشواربي إلى ترجمتها التي استغرقت منه قرابة السنوات العشر؛ حتى أتم ترجمة الجزء الأول وظهر إلى النور عام 1944، ثم أخرج الجزء الثاني عام 1945.

وترجمة غزليات حافظ الشيرازي من الفارسية إلى العربية على يد المرحوم إبراهيم أمين الشواربي؛ تعد الترجمة العربية الأولى والكاملة والأهم والأجمل لديوان حافظ الشيرازي؛ ذلك الكتاب العرفاني والأخلاقي والأدبي والجمالي القيم. جاء الكتاب في بابين؛ خص المؤلف الباب الأول بحافظ وحياته وخصوصياته، وجميع جوانب شخصيته. أمّا الباب الثاني فكان حول ديوان حافظ؛ حيث ذكر المترجم طبعات الديوان الشرقية والغربية، وترجمة الديوان إلى اللغات الأجنبية (الشروح التركية والتراجم الأوروبية)، وفي الأخير ترجمة الديوان إلى العربية للمؤلف، والمؤلف من أربعمائة وستة وتسعين غزلا

- 4 -

لفتت ترجمة الدكتور إبراهيم أمين الشواربي لأغاني شيراز أنظار الأساتذة والأدباء، وعلى رأسهم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، حتى إنه قد وصف هذه الترجمة بأنها «جميلة ورائعة لزهرة الشعر الفارسي «ديوان حافظ»». ولا شك أن الثناء على هذه الترجمة يصدر عن إدراك علمي وتذوق فني ووعي بطبيعة الإبداع الشعري، فضلاً عن أن عميد الأدب قد دعا طويلاً إلى توثيق الروابط الأدبية والعلمية والثقافية بين حاضرنا وماضينا، وحاضر الأمم الأخرى وماضيها أيضًا. وكتب الدكتور طه حسين مقدمة تقريظية للديوان المترجم جاء فيها:

«... وهذه طرفة أخرى نفيسة رائعة، يسعدني أن أطرف بها قراء العربية! لأنها ستمتعهم من جهة، ولأنها ستزيد ثروة الأدب العربي من جهة أخرى، ولأنها بعد ذلك ستثير في نفوس الكثيرين منهم ألوانا من التفكير المنتج، وفنونا من الشعور الخصب، ولعلها أن تفتح لبعض الشباب أبوابًا في الحس والشعور والتفكير لم تفتح لهم من قبل».

وأظن أن السطر الأخير من الفقرة المقتبسة هنا كانت بمثابة نبوءة أدبية وإبداعية نافذة على الحقيقة لا المجاز؛ فهذا ما حدث بالضبط بعد اثنين وثلاثين عاما، حينما أخرج نجيب محفوظ رائعته «الحرافيش» (ومن قبلها «حكايات حارتنا») وفيها من روح ومداد حافظ الشيرازي ومن غزلياته، تسري تحت السطح الكامن للنص الرفيع كما تسري الدماء في شرايين الجسد تمنحه الحياة والحيوية والتدفق والنشاط.

كأن طه حسين، كعادته يتطلع إلى المستقبل، وقرأ أن هناك من سيأتي ويقع بين يديه هذا الأثر الإنساني العظيم ويحدث في نفسه وروحه ما يجعله يقدم للأدب العربي والثقافة الإنسانية طرفة أخرى ليس لها مثيل ولا نظير في الكتابة العربية عبر عصورها وتاريخها كله.

- 5 -

في ذلك الوقت كان محفوظ يستهل خطواته الأولى بثبات وثقة في عالم الأدب والرواية، ولم يكن صدر له أكثر من خمس أو ست روايات، ولم يكن حظي بالشهرة الواسعة والعريضة التي نالها بعد كتابته ونشره للثلاثية منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.

وأرجح أن نجيب محفوظ قد قرأ ترجمة «أغاني شيراز أو غزليات الشيرازي» عقب صدورها بوقتٍ طفيف عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، ذلك أن الأثر الذي أحدثته في نفسه وروحه كان من العمق والتمكن والتغلغل إلى الحد الذي جعله يقول مبكرا وبالتحديد عام 1945، عبارته الشهيرة التي أعدها دستورًا إبداعيا أصيلًا «إن الأدب الذي لا يرقى إلى مرتبة الشعر ليس من الأدب في شيء».

وأعتقد أن علاقة نجيب محفوظ بالتراث الفارسي، وخاصة الشعر الفارسي، قد تكرست وترسخت في هذه الفترة أو قبلها بقليل لتنشئ علاقة من نوع خاص وفريد. لقد أغرم نجيب محفوظ غرامًا شديدًا بأشعار التصوف الفارسي والحب الإلهي، وتوقف طويلًا أمام ديوان «أغاني شيراز».

أكثر من ثلاثة عقود وقراءته لديوان الشيرازي وغزلياته تختمر في روحه ونفسه وذهنه؛ تعيد صياغة تصوراته الروحية وتأملاته الصوفية وتمنحه طاقة إبداعية متجددة في التصوير والتركيب والخلق الإبداعي. وما زلت أرى أن دراسة نقدية تحليلية مقارنة تفتقدها المكتبة العربية لدرس هذا الأثر في ثقافة وإبداع نجيب محفوظ. فمن يقرأ أعماله في المرحلة التي استهلها بـ«أولاد حارتنا» عام 1959 ثم أعماله في عقد السبعينيات وما تلاها («حكايات حارتنا» و«قلب الليل» و«الحرافيش» و«ليالي ألف ليلة») لن يعدم أبدا العثور على هذه الخيوط الذهبية الحريرية غير المنظورة بذاتها المحسوسة بأثرها من تجليات قراءاته في التصوف الإسلامي والإنساني والأدب الفارسي والشعر الفارسي بالأخص..

(وللحديث بقية)