No Image
ثقافة

مرفأ قراءة.. "عنتر ولبلب" السخرية سلاحًا للمقاومة !

11 نوفمبر 2023
11 نوفمبر 2023

- 1 -

استلْفتْني كثيرًا الطرح الذي قدمه الناقد محمود عبد الشكور في قراءته البديعة لفيلم «عنتر ولبلب» الذي تحدثنا عنه في الحلقة السابقة باعتباره فيلم مقاومة بامتياز؛ عُرض للمرة الأولى قبل أشهر قليلة من قيام حركة الضباط الأحرار في مصر (يوليو 1952)، وكان المناخ السياسي في مصر آنذاك مشتعلا وصاخبا جراء إلغاء معاهدة 1936 مما فتح الباب أمام النضال المسلح والعمل الفدائي ضد الإنجليز في قناة السويس وراح في ذلك شهداء من خيرة أبناء هذا الوطن.

يبدو الفيلم للوهلة الأولى فيلما كوميديا ساخرا بل و"هزليا" يقوم على المفارقة بين قوة وافد غريب "سراج منير" محاط برجال أشداء جاء ليستوطن حارة مصرية شعبية، وينشئ فيها "ملهاه" (لاحظ دلالة المنشأة) في مواجهة محل "مطعم فول" بسيط يمتلكه ابن بلد مصري خفيف الظل "محمود شوكوكو"، ولا يقتصر التهديد هنا على وقفِ حال صاحب المطعم وخطر الاستيلاء على محله كله، بل إنه سيطمع فيما هو أكثر من ذلك ويسعى للاستيلاء على خطيبته الفتاة المصرية الجميلة، ومن هنا يبدأ الصراع ويُعلن التحدي، وتحتدم المواجهة!

- 2 -

الفيلم في مجمله ساخر بامتياز، و"السخرية" أو "المفارقة الساخرة" سلاح فتاك في مواجهة البطش والاستبداد والقمع وفي لحظات احتشاد الوجدان الجمعي في مواجهة مستعمر باطش أو قوة احتلال غاشمة، وكانت "السخرية" عبر العصور وخاصة في تاريخ الشعب المصري إحدى الوسائل الفعالة في التعبير عن الرفض ومقاومة المستعمر الغريب ومواجهة الاحتلال!

الشواهد كثيرة جدا، وقد التفت الشاعر العبقري صلاح جاهين إلى ذلك المعنى في تمجيده الفني/ الشعري لشخصية "المهرج"؛ يقول في واحدة من رباعياته المذهلة:

أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس

جلجلت به صحيوا الخدم والحرس

أنا المهرج.. قمتوا ليه خفتوا ليه؟؟

لا في إيدي سيف ولا تحت مني فرس.. وعجبي!

(رباعيات صلاح جاهين)

إن السخرية أو ""الباروداي" فن صعب لأنه من السهل الانزلاق من السخرية إلى الفجاجة، كما أنه يتطلب فهما كاملا للنوع الذي تقدم محاكاة ساخرة له، المحاكاة هنا محاولة للكشف عن الوجه الضاحك للنوع الجاد، وهي تعتمد بالأساس على معرفة المتفرج بالأصل، وإلا ما وصلته السخرية، وبالتالي فإن "الباروداي" يعني بالضرورة تقديم التحية للأصل الجاد، الذي لولاه ما كانت الصورة الهزلية، ومن نماذجه القليلة مصريا، على سبيل المثال كما يورد محمود عبد الشكور في كتابه، فيلما «أخطر رجل في العالم» و«عودة أخطر رجل في العالم»، وهما محاكاة ساخرة لأفلام العصابات الأجنبية، وفيلم «فيفا زالاطا» وهو محاكاة ساخرة نادرة لأفلام الكاوبوي، وفيلم «لا تراجع ولا استسلام.. القبضة الدامية» الذي يقدم "باروداي" للأفلام البوليسية ولأفلام الأكشن معًا.

وكان لافتا أن يكتب صناع الفيلم في تقديمه أنه "كوميديا من نوع مبتكر.. وفن جديد لم يسبق عرضه"، بهذا المعنى يبدو فيلم "عنتر ولبلب" محاكاة ساخرة لوضع سياسي واجتماعي ساخن يدور على الأراضي المصرية، ولهذا فإن تحليل إشارات وعلامات الفيلم كله بدءًا من أسماء أبطاله، وعناوين المحال والشعارات المكتوبة على جدران الحارة، والتعليقات التي تتخلل الفيلم من سكان الحارة أو الغرباء عنها، كل ذلك في النهاية يحيل إلى مستويات عميقة من الدلالة تتجاوز بكثير جدا فكرة الفكاهة والإضحاك والتسلية! إنه فيلم في مغزاه العميق فيلم سياسي مقاوم من الدرجة الأولى.

- 3 -

وإن كان البعض حمل الفيلم أو ربطه ربطًا مباشرًا بالقضية الفلسطينية وإعلان الصهاينة تأسيس دولة إسرائيل، والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وارتكاب المجازر المروعة في دير ياسين وغيرها، فإن قضية الفيلم الأساسية هي "الجلاء" جلاء المستعمر البريطاني عن مصر، و"الاستقلال التام أو الموت الزؤام"

وفي هذا يوضح صاحب «سينما مصر» أن للفيلم بالتأكيد طابعا سياسيا واضحا، وصحيح تماما أنه عن قدرة الضعيف على هزيمة المحتل أو الغريب وطرده، ولكن ثراء الفكرة فيما يرى عبد الشكور هو الذي جعل البعض يفهمها على نطاق القضية الفلسطينية وحدها، بالإضافة إلى اسم "شمشون" الملتبس الذي تم تغييره إلى "عنتر"، بينما هي بالتحديد ترتبط بشكلٍ مباشر بأحداث سياسية مصرية مهمة جرَت قبل أشهر قليلة من عرض الفيلم.

هذه الأحداث تتمثل في إعلان مصطفى النحاس باشا رئيس وزراء مصر آنذاك (تحديدا في 8 أكتوبر 1951)، إلغاءه لمعاهدة 1936 مع بريطانيا، وترتب على ذلك اعتبار الوجود البريطاني أو أي قوات مسلحة بريطانية في قناة السويس "غير شرعي"، ومن ثم إعطاء الضوء الأخضر لبدء عمليات المقاومة وشن هجمات فدائية ضد هذه القوات، وإجبارها على الرحيل بالمقاومة، بعد أن فشلنا في إجلائها بالمفاوضات.

- 4 -

أما الجلاء المقصود في الفيلم فهو "الجلاء" عن المعقل الأخير للإنجليز في قناة السويس، والعبارات الموجودة على المقاهي والمحال التجارية، كما حللها محمود عبد الشكور ببراعة منقطعة النظير على الرغم من أنها تكاد لا تستلفت النظر أو تقف عندها عينا المشاهد أو المتفرج العادي، هذه العلامات أو الإشارات أو العبارات لا تترك مجالًا للشك في أن الفيلم عن القنال (قناة السويس)، والمقاومة للإنجليز، وفرقة الموسيقى التي تعزف ابتهاجًا في كل مرة ينجح فيها لبلب في صفع عنتر أو "شمشون".

يطلق عليها الفيلم اسم "الموسيقى الوطنية"، أما اسم شمشون، فلا أظن أنه اختير أصلا لدلاته اليهودية الدينية، وإنما لدلالته الشعبية، فالشخصية في الذاكرة الشعبية المصرية مرتبطة بالقوة الهائلة، وكثيرون لا يعرفون أصلا أنها شخصية يهودية توراتية، كما أن الاسم يبدو غريبا، وبالتالي يحقق فكرة أن هذا الرجل الشرس غريب شكلا واسما وسلوكا، في تناقض صريح مع مصرية وفهلوة وشكل وحداقة ابن البلد "لبلب".

وفيما يرى مؤلف "سينما مصر" فإن صناع الفيلم لم يجدوا أي مشكلة على الإطلاق في حذف اسم "شمشون"، فلم يكن يعنيهم في الواقع دلالة الاسم الدينية، ولكن دلالته في الوجدان الشعبي، ولذلك اختاروا على الفور اسما قريبا من هذه الدلالة الشعبية، وهو اسم "عنتر"، أحد رموز القوة المفرطة الهائلة، وان افتقد الاختيار عنصر غرابة الاسم المطلوبة لرجل وافد يقوم بغزو الحارة، واحتلالها بقاعدة ترفيهية، ولكن اختيار اسم "عنتر" كان أهون الأضرار، فقد أنقذ الفيلم من المصادرة، وحقق نفس تأثير القوة الخالصة، التي يفترض أن يهزمها في الفيلم عقل البطل وذكاؤه، كما تهزمها عمليات المقاومة النوعية المؤثرة على الهيبة والمكانة، وهي صفعات الفيلم السبعة، التي تؤدي في إلى جلاء المحتل، رغم قوته وثروته، وفوز ابن البلد بمحبوبته بنت البلد، ولم يكن ذلك ممكنا سوى باتحاد ومساعدة الكثيرين للفتى لبلب.

- 5 -

وهكذا اكتملت عناصر الفيلم باعتباره تجسيدا وتمثيلا لمواجهة مباشرة بين قوتين غير متكافئتين لكن أضعفهما يلجأ إلى الحيلة والشطارة والذكاء مدعوما بمساندة شعبية طاغية.

هذه إذن معركة واضحة الأطراف، لا تمنع من أن يسقط كل شعب تحت الاحتلال رمزيتها على حالته، وأهميتها الكبرى فيما يرى الناقد، أنها أثبتت بكل ذكاء، أنك يمكن أن تقول أشياء مهمة وخطيرة، سياسية ووطنية ونضالية، من خلال حكاية شعبية بسيطة ومضحكة إلى حد "المسخرة"، بل وأن يتم استلهام مفردات الفرجة الشعبية، والفكاهة الشعبية، والبطل الشعبي، لكي تقول ما تريد بطريقة مضحكة وممتعة للغاية.

ولا شك أن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى عناصر أساسية هي قصة الفيلم، والسيناريو، والحوار، وأداء الممثلين، وخصوصا الفنان الراحل محمود شوكوكو في دور "لبلب"، وهو أفضل أدواره السينمائية على الإطلاق بتعبير عبد الشكور، وكذلك سراج منير في دور "عنتر"، وهو أيضًا من أشهر أدواره، رغم كثرة الشخصيات التي لعبها، وتنوعها بل وتناقضها، مما يدل على موهبة استثنائية.