قباب مدافن باب الوزير
قباب مدافن باب الوزير
ثقافة

مرفأ قراءة... سارق النعمة.. وليس "سارق النغمة"!

28 مايو 2022
28 مايو 2022

- 1 -

تطرح الطبعة الإلكترونية المجانية الجديدة من أعمال أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ والتي أتاحتها مؤسسة هنداوي للثقافة والعلوم إشكالية مهمة في مراجعة وتدقيق وإتاحة أعمال كبار مبدعينا بعد وفاتهم، وضرورة الحرص والتحري من موافقة النص المنشور للأصل الذي أقره واعتمده صاحبه أو كما أراد هو أن يكون عليه، وفق الشواهد والأدلة النصية والخطية والعقلية والنقدية معا!

كان أول ما أتاحته مؤسسة "هنداوي" على موقعها الرائع الثري بالأعمال القيمة، والمتاحة مجانًا باللغة العربية، من أعمال محفوظ رائعته الخالدة «الحرافيش»، وهي في نظري -ونظر الكثيرين من عشاق محفوظ وأدبه- أجمل ما كتب وأروع ما كتب (بل في ظني واعتقادي أنها أروع ما كُتب بالعربية في تاريخ أدبها الحديث والمعاصر).

وقد اعتمد فريق محرري مؤسسة هنداوي تسمية الحكاية التاسعة بـ"سارق النغمة" وليس "سارق النعمة" على ما جرى نقله واعتماده في الطبعات السابقة، على مدار ما يزيد على أربعين عاما. وأنا هنا لا أتهم المؤسسة الرصينة بأي شيء وأعلم جيدا أنها -وفريق محرريها ومراجعيها الأكفاء- تتحرى غاية ما في وسعها للتدقيق والضبط دون أن تجاوز ذلك قيد أنملة! وأنهم أمناء غاية الأمانة في النقل والمراجعة وضبط النص ما وسعهم الجهد والطاقة وكل ما أصدروه من أعمال قيمة ومرجعية أصدروها على مدار السنوات السابقة من كتب مؤلفة أو مترجمة تراثية أو معاصرة تشهد بكامل الأمانة والدقة والانضباط وهم يقدمون للثقافة العربية خدمات جليلة بكل ما تعنيه الكلمة وسيذكر التاريخ لهم ذلك، بغير جدال.

وهم في النهاية لهم جزيل الشكر على إتاحتهم روائع أديب العربية الأكبر مجانًا لكل عشاق أدبه، وعشاق الرواية العربية وفي صورة ممتازة، وبعد أن دفعت لابنة محفوظ، وصاحبة حق الملكية الفكرية لأعمال أبيها، مبلغا ضخما تجاوز الملايين الخمسة من الجنيهات المصرية!

- 2 -

ولأن «الحرافيش» نص طويل وكبير وممتد يقوم على نفس ملحمي تستعرض سيرة أسرة مصرية شعبية ذات سمات أسطورية بدءا من مؤسس الأسرة عاشور الناجي وحتى الحكاية العاشرة لعاشور الأخير في التوت والنبوت. ومن الصعب لضيق المساحة أن نستعرض تفصيليا هذا العمل الملحمي الجبار الذي استهلك عشرات المقالات والدراسات في التحليل والكشف عن المستويات الجمالية المتعددة والمتراكبة والمتداخلة لهذا النص الفريد في أدبنا العربي كله. لكننا سنعرض للتعريف النقدي الموجز والمكثف الذي قدمه محمد بدوي للرواية في مادته التي حررها عن الرواية في «قاموس الأدب العربي الحديث»؛ بقوله:

"... «الحرافيش» إحدى روايات نجيب محفوظ كبيرة الحجم، ذات الطابع الملحمي. كان محفوظ قد حاول كتابة تاريخ العالم بالاعتماد على الموروث الديني السامي، فكتب روايته «أولاد حارتنا» ذات الطابع الأليجوري، وهو في «الحرافيش»، يكتب رواية أسرة مقدسة من خلال تتبع سلالة «الناجي» المؤسس، أو الأب الأول. وقد حدّد النص المكانَ بأنه «الحارة» تلك البقعة من الأرض التي تشير واقعيًا إلى حي «الحسين» في القاهرة الفاطمية، لكن الشخصيات والأحداث تجعلها رمزيًا بيتًا للعالم. أما الزمان، فيكاد أن يكون قبيل العصر الحديث. ومن ثم يبدو كأنه سرمديّ لا يتغير، بل يوحي بالعلو على التاريخ، برغم تاريخيته.

والحرافيش نص شاسع، متعدد الشخوص أو هو على وجه الدقة مجموعة من سير الأبطال المتتابعة المصوغة بقدر عال من التكثيف، واستبعاد ما ليس دالًا، وضغط الأزمنة، ومن ثم يلحظ القارئ أنه أمام شكل روائي ينطوي على قدر كبير من الجدة والابتكار، والجدة أساسها إنتاج شكل ملائم للنهاية التي يعرفها القارئ منذ البداية، وبرغم ذلك فهو لا يحسها ثقيلة الوطأة. أن الغاية في الحرافيش لا تتصدر المشهد، بفضل طرائق معقدة تحبط توقع القارئ.

وسير الشخصيات لا تعدو أن تكون تركيبًا متشابكًا من حيوات أخرى، متحدرة من نصوص تنتمي إلى ثقافات عدة، ولذلك تتميز الحرافيش عن «أولاد حارتنا» بتعدديتها البنيوية والدلالية.

ويرى كثيرون أن «الحرافيش» بحركتها بين السرد والمجاز، وسعيها للتكثيف اللغوي، وانفتاحها على نصوص كثيرة من ثقافات عدة، قد حققت مكانة خاصة في الأدب العربي الحديث.

- 3 -

أما أهم ما استلفتني وجعلني أخصص هذا المقال بأكمله له فهو عنوان الحكاية التاسعة من «الحرافيش»، والتي وردت بنصها في إصدار هنداوي كالتالي: "سارق النغمة".. وليس سارق النعمة!

أعلم أن كل طبعات رواية «الحرافيش» المتاحة (طبعة مكتبة مصر، وطبعة الشروق، وطبعة الأعمال الكاملة الصادرة في بيروت، وطبعة الأعمال الكاملة الصادرة أخيرا عن الشروق..) قد اعتمدت هذا العنوان للحكاية التاسعة "سارق النغمة"! وهذا غير صحيح، تماما!

بل إن بعض الكتاب والنقاد الذين كتبوا عن «الحرافيش» وتحول حكاياتها إلى أفلام ومسلسلات درامية قد استنكر على البعض ممن رأوا أن العنوان "سارق النعمة" وليس "سارق النغمة" وفي الحالتين ليس هناك تبرير مقنع لاستخدام هذا العنوان أو ذاك!

فكلاهما يتم تداوله واستخدامه على المشاع والنقل وليس عن دليل أو استيثاق خطي يعود لمحفوظ نفسه أو بشاهد نصي من سياق الرواية ذاتها، ومشاهد الحكاية التاسعة على ما كتبها ورواها محفوظ!

لكن الحقيقة الثابتة فيما أعلم ويعلم كل من اتصل بنص محفوظ الأثير، وعلى خبرة بأسلوبيته واستراتيجيته المعتمدة في العنونة (سواء لرواياته أو قصصه أو في العناوين الفرعية الداخلية لنصوصه عامة) أنها تقوم على الإيحاء والرمز، والتكثيف والترميز والإيجاز والاختصار. وجاء عنوان سارق النعمة في صورة التركيب الإضافي لتكثيف مغزى الحكاية كلها التي تدور حول الجشع والاستغلال في أزمنة الأوبئة والأزمات وشح الموارد والغلال!

- 4 -

وأنا ممن يعتمدون تسمية هذه الحكاية بـ"سارق النعمة" وليس سارق النغمة، وأنا هنا أستند في هذه التسمية إلى الأدلة والشواهد النصية التالية:

أولا؛ وبالرغم من أن كل الطبعات التي نشرت من الحرافيش نقلت عن طبعتها الأولى المسلسلة المنشورة في مجلة (أكتوبر) على حلقات، وعن هذه الطبعة المسلسلة، نُشرت الطبعة الأولى من الرواية عن مكتبة مصر عام 1977 وعنها نقلت كل الطبعات التالية بما فيها طبعة الأعمال الكاملة التي صدرت في بيروت عن دار الكتاب المصري اللبناني، وطبعة الشروق المفردة وطبعة الأعمال الكاملة التي صدرت في مطالع العام الجاري.

ثانيا؛ بالرجوع إلى اسمين من أكبر الأسماء المتخصصة في أدب نجيب محفوظ وأعماله وهما الناقدان الكبيران حسين حمودة (آخر أجيال الحرافيش انضماما إلى تجمع نجيب محفوظ قبل رحيله) ومحمد بدوي صاحب مشروع نقدي ضخم عن أعمال محفوظ ورواياته، قد أكدا لي تأكيدا جازما وقاطعا لا لبس فيه أن العنوان الصحيح والدقيق للحكاية هو "سارق النعمة" وليس سارق النغمة..

وقد أورد بدوي في دراسته التفصيلية التي خصصها للرواية، ونشرها في مجلة (فصول) النقدية المصرية العريقة، في أعدادها المخصصة لـ"خصوصية الرواية العربية" عناوين الحكايات العشرة المكونة للحرافيش، وجاء عنوان الحكاية التاسعة كما اعتمده بدوي "سارق النعمة.. وليس سارق النغمة"!

ثالثًا؛ ولعل من الأسباب الرئيسية في حدوث هذا التغيير وأشباهه، أن نجيب محفوظ كان يسلم أصول مخطوطات رواياته المكتوبة بخط دقيق ومنمنم، ويستدعي خبرة ودربة من قارئه وجامع نصه (على الآلة الكاتبة قديما أو الكمبيوتر حديثا) وغالبا ما كانت تشكل بعض الكلمات على من يقومون بعملية الجمع هذه وتحويل النص المخطوط إلى نص مجموع بالحرف الطباعي تمهيدا لصدوره بين دفتي مجلة دورية أو صحيفة سيارة أو كتاب في صورته النهائية.