9665
9665
ثقافة

مرفأ قراءة... خيري دومة و «تداخل الأنواع في القصة القصيرة»

19 يونيو 2021
19 يونيو 2021

إيهاب الملاح -

- 1 -

كنت في زيارة سريعة لأستاذي وصديقي العزيز الدكتور خيري دومة؛ الناقد والأكاديمي ورئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة؛ أعرق وأقدم أقسام الأدب واللغة العربية في مصر والعالم العربي كله، تلك البؤرة التنويرية المشعة الأعرق والأقدم بين كل أقسامنا العلمية، والذي تجاوز أدواره التعليمية المباشرة إلى الاتصال بالمجتمع الخارجي، ومارس فعالياته الثقافية والتنويرية بحكم التاريخ والقيمة والإمكانية، ووَعَى أبناؤه من الطلاب والمعيدين وأعضاء هيئة التدريس والمتخرجين فيه قيمة الانتساب إليه، وتعزيز شعور الفخر بالانتماء إلى قسم يضم سجل الشرف والتاريخ فيه أسماء؛ طه حسين، أحمد أمين، أمين الخولي، محمد مندور، محمد كامل حسين، سهير القلماوي، عبد العزيز الأهواني، محمود علي مكي، شوقي ضيف، إحسان عباس، ناصر الدين الأسد، شكري عياد، عبد المنعم تليمة، يوسف خليف، حسين نصار، نبيلة إبراهيم.. وعشرات غيرهم.

ودومة من القلة التي تخرجت في هذا القسم، وما زالت تقبض على جمر القيمة واحترام التقاليد الأصيلة لهذا القسم العريق الذي نتشرف بانتسابنا إليه، وتخرجنا فيه.

ذهبت إليه لأهديه نسخة من كتابي الجديد عن «طه حسين»، وكالعادة كانت زيارة ممتعة ومبهجة ومحرضة على البحث عن كثيرٍ من الموضوعات والقراءات. ما من مرة زرته فيها إلا وتحولت الجلسة إلى عصف ذهني «غير مسبوق». يبهرني دائمًا بوجهه الإنساني البشوش والطيب، بدماثة خلقه وطيبته التي لا تحد، ويبهرني «دومة» المثقف والناقد والأكاديمي؛ ثقافة واسعة جدًّا، ومعرفة نقدية موسوعية حقيقية وعميقة، وحس مرهف في قراءة النصوص والحديث عنها، وإنتاج معتبر في زمنٍ عزّ فيه من يكتب بضمير نقدي نزيه أو يقدم بحثًا نقديًّا جادًّا ورصينًا..

- 2 -

خيري دومة أقرب في طبيعته الإنسانية إلى صديقنا وأستاذنا المبدع الكبير بهاء طاهر الذي نشترك معًا في حبه وعشق كتابته وتقدير قيمته. دومة شخصية هادئة وادعة مسالمة للغاية ينفر من العراك التافه، ولا يقحم نفسه في صراعات مبتذلة، ويتعالى على الصغائر. لكن في المقابل أنت أمام شخصية قوية ونزيهة بكل ما تحمله الكلمة، شخصية تقدر المسؤولية وإنجاز المهام وحسن الإدارة، لا يقول إلا ما يوافق قناعته ولا يبدي رأيًا إلا إذا كان مبنيًّا على معرفةٍ وبصر، ولا يعلن عن موقف إلا إذا كان معتقدا بصوابه مائة في المائة. قد تختلف معه في كثير من الأمور والمواقف والآراء، لكن لا يمكن أبدًا أن تتشكك لحظة في حسن قيامه بالأمور، وبأمانته وصدقه، وألا تحترم رأيه الصادر عن ضمير حي ومتوهج.

وربما كان خيري دومة، ومن قبله الناقد الدكتور حسين حمودة، هما حاملا لواء التقاليد التنويرية الأصيلة، والنقدية المعرفية العميقة، والثقافية الإنسانية الراسخة؛ التي كان يتم توارثها بدءًا من طه حسين وحتى سيد البحراوي، وبينهما كثير.

- 3 -

لعل أهم ما يميز خيري دومة كناقدٍ من وجهة نظري أنه ربما كان ينتمي إلى آخر جيل علمي «أكاديمي» امتلك مقومات التأسيس المعرفي والتكوين النقدي، وكافح بإصرار كي ينجز أطروحتيه للماجستير والدكتوراه باقتدار؛ رسالتين علميتين تدرسان على كل المستويات؛ مستوى الطرح والتأسيس النظري، ومستوى التطبيق وتحليل النصوص. عندما تلقي نظرة سريعة على رسالته للماجستير عن «سعد مكاوي وعالمه القصصي» لا أظن أن هناك مزيدًا يمكن أن يقال على ما قدمه خيري دومة من مسح تاريخي ونقدي غير مسبوق للرجل، وكشف لتياره الفني وخياراته الجمالية، وارتباط كل ذلك بسياقه التاريخي والاجتماعي والسياسي.

أما أطروحته للدكتوراه التي رجعت إليها كثيرًا وأفدتُ منها كثيرا في كتابة فصل (القصة القصيرة لمحات جمالية) من كتابي «على أجنحة السرد بين القصة والرواية ـ مدخل نقدي»؛ فهي عمل فذ وتأسيسي بكل المقاييس وعنوانها «تداخل الأنواع في القصة القصيرة في مصر (1960-1990)»، والتي صدرت عن سلسلة دراسات أدبية بالهيئة المصرية العامة للكتاب.

وقد اتخذ لها إطارًا زمنيًّا ثلاثة عقود متصلة شهدت إنتاجًا قصصيا غزيرًا وتبلورًا في الاتجاهات الفنية والخصائص التقنية، ووصلت فيها القصة القصيرة المصرية والعربية إلى آفاقٍ بعيدة، في الشكل والمضمون على السواء.

- 4 -

تستهدف الدراسة البحث في مجمل مسائل وقضايا وأسئلة القصة القصيرة في مصر، طيلة ثلاثين عاما (1960-1990). فمن جانب تحاول الدراسة تتبع التطور النصي الذي اعتور القصة القصيرة، كما يتجلى في النصوص المعدودة المتنوعة المختارة من كل مرحلة.

ومن جانب آخر، تعاين الدراسة التفريعات النوعية للقصة القصيرة (بدءا بـ «النوفيلا» أو«القصة القصيرة الطويلة»، مرورا بتنويعات «قصة تيار الوعي» و«القصة/اللوحة»، وانتهاءً بـ«القصة القصيرة جداً» و«حلقة القصص القصيرة»). وبالأساس تتعامد الدراسة على هدفٍ رئيسي هو اكتشاف حدود تداخل وانخراط الأنواع الأدبية الأخرى (الرواية، الشعر، الدراما، المقالة، النادرة، الحكايات الشعبية) في الأنواع الفرعية للقصة القصيرة، بصور مختلفة ومعقدة ومتفاوتة، وذلك باعتماد معيارٍ أولي، يضيء حجم التداخل وصورته، ويتمثل في الثلاثية التقليدية الشهيرة (ملحمي، غنائي، درامي).

وقد اختار د.خيري دومة، أن تكون دراسته -في جانبها التطبيقي- دراسة نصية، أي تنطلق من تحليلات «النص» لا تحليلات «النوع» أو تحاول -على الأقل- المحافظة على الحوار الدائم بين «النص المفرد والنوع الجامع».

حاولت هذه الدراسة -في جانبها التطبيقي- أن تكون دراسة نصية، أي تنطلق من تحليلات «النص» لا تحليلات «النوع»، أو تحاول على الأقل المحافظة على الحوار الدائم بين «النص المفرد» و«النوع الجامع»، فاختارت من نصوص الفترة مجموعة محدودة، لكنها متنوعة تنوُّعَ ما يسميه النقادُ والكتاب «قصة قصيرة»، وهو مصطلح يشتمل على تنويعات من «الأشكال» أوالأنواع الفرعية sub-genres.

- 5 -

وهكذا بدأت الدراسة من «النوفيلا» أو القصة القصيرة الطويلة وانتهت إلي «القصة القصيرة جدا» و»«حلقة القصص القصيرة»، مرورًا بتنويعات «قصة تيار الوعي» و «القصة/ اللوحة». ووضعت الدراسة لنفسها معيارًا أوليا تتلمس من خلاله حجم التداخل وصورته، وكان هذا المعيار هو الثلاثية التقليدية الشهيرة: ملحمي - غنائي - درامي. وهي ثلاثية أصبحت أكثر مرونة في الأدب المعاصر، فتداخلت أطرافها وفقدت كثيرًا من معياريتها القديمة كما لاحظ بعض النقاد، لكنها ظلت صالحة لتلمُّس كثير من الفروق النوعية بين النصوص.

كان الهدف من هذا الوقوف الطويل أمام «نصوص» معدودة ومتنوعة من «القصة القصيرة هو وضع مفهوم «النوع» نفسه موضع الاختبار، في محاولة للإجابة علي بعض الأسئلة: مثل: إلي أي مدى توجد سمات مشتركة حقيقية وموضوعية بين هذه النصوص تسمح بوضعها تحت «نوع» واحد؟ وإلى أي مدى تتباين السمات وتتناقض بحيث يشكل كل نص منها نوعًا في ذاته أومجرد «كتابة» عابرة للأنواع؟ هل يمكن التعامل مع النوع باعتباره مجموعة من التنويعات الفرعية الممتدة بلا نهاية؟ وهل السمات التي نستند إليها في التصنيف سمات موضوعية حقًا، أي لها وجود فعلي في النصوص مستقل عن الإدراك الذاتي، أم أن الأمر يخضع تمامًا لتأويلات القارئ؟.. إلخ.

- 6 -

وميزة الكتاب الكبرى -في ظني- أنه رجع إلى كمٍّ هائل من النصوص القصصية لكتّاب عديدين، وانطلق من تحليلات هذه النصوص الغزيرة لدراسة أشكال القصة القصيرة وتطورها، وتفريعاتها النوعية التي تولدت منها أو تحتها؛ بدقة عالية ومهارة منقطعة النظير. وقدم محاولة تصنيفية رائعة تستحق الجهد والإشادة، كما استطاع بمهارة أيضًا أن يسيطر على هذا الحشد المهول من القصص، وأن يؤطر مدخله النظري تأطيرًا منهجيًّا متماسكا ممتازًا، غاية في الإحاطة والعمق والشمول والإحكام، وبهذا يكون الكتاب قد قدم إسهامًا نوعيًّا بارزًا ومتميزًا في تحليل معضلات القصة القصيرة شكلًا جماليًّا ونوعًا أدبيًّا، ذلك النوع الأدبي المراوغ والمنفلت والحساس.