No Image
ثقافة

مرفأ قراءة.. "الخيال التاريخي" في الفكر الأوروبي

16 ديسمبر 2023
16 ديسمبر 2023

- 1 -

ما بين تطور الشعر والأدب والبحث التاريخي في القرن التاسع عشر، وتطور مناهج الكتابة التاريخية ومحاولة فحص الحدود بين الكتابة الأدبية والتاريخية في القرن العشرين، برز مفهوم "السرديات التاريخية" في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وارتبط مفهوم "السردية" بالطريقة التي تصاغ بها الأفكار حول موضوع معين في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية.

مصطلح "سردية" أو "سرديات" من المصطلحات التي بات منتشرة الآن، وعلى نطاق واسع، في أدبيات التاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية عمومًا... فهل هناك مدلول محدد يُستخدم به في إطار النقاشات العلمية والأوراق البحثية في هذه العلوم؟

توجهت بهذا السؤال إلى المؤرخ والأكاديمي المصري شريف يونس الذي تصدى لترجمة عمل هايدن وايت الكبير (الخيال التاريخي في أوروبا القرن التاسع عشر) وصدرت ترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة في العام الأخير.

يعرِّف المؤرخ والأكاديمي المصري شريف يونس مفهوم "السرد" (ويقال أيضًا السردية في الاستخدام الشائع) بأنه، نوع من الكتابة النثرية يتميز بالقَص، أي أنه يُروى. لذلك يقال عن "التاريخ" مثلًا أنه "سرد". وبالتالي فهو أوسع من مختلف أنواع النصوص الأدبية النثرية، لكنه أضيق من صنف النثر العام الذي يحتوي السرد، وغيره. ومع البنيوية وما بعدها أصبح السرد narrative شاغلًا نظريا أساسيا في كثير من العلوم الإنسانية والفلسفة.

- 2 -

يعود تاريخ هذه العلاقة الملتبسة بين الأدب والتاريخ أو بين الخيالي والواقعي إلى فجر الفلسفة الإنسانية والانشغال بقضايا الفكر والإبداع.

فإذا ما عدنا إلى أقدم تاريخ لبحث العلاقة بين التاريخ والأدب (الشعر) فإننا نجد أن أرسطو يقول في بداية الفصل الثامن من كتابه "فن الشعر": "لا يختلف الشاعر عن المؤرخ في الكتابة بالشعر أو بالنثر؛ فعمل هيرودوت ربما يكتب شعرًا، ولكنه يظل نوعًا من التاريخ، موزونًا أو من دون وزن.

إن الفارق الحقيقي في أن أحدهما يحكي ما حدث، بينما يحكي الآخر ما يمكن حدوثه؛ وهكذا يكون الشعر أكثر فلسفة من التاريخ؛ لأنه يميل إلى التعبير عما هو عام، بينما يميل التاريخ إلى التعبير عما هو خاص. وأنا أعني بكلمة "عام" الكيفية التي يتكلم بها أو يتصرف بها شخص ما وفقًا لقانون الاحتمال والضرورة".

كان هذا هو الطرح الأول والأقدم وكلاسيكية في بحث حدود هذه العلاقة.

مع مرور العقود والقرون وتطور التفكير ومناهج البحث، برز توجه آخر يرى أن التاريخ والسرد يتشابهان إلى أبعد حد، وربما يتطابقان؛ فالرواية -من جهة- هي نوع من التأريخ المستند إلى بحث ووثائق ومعاينة وربما معاناة للأحداث والوقائع المحكية، والتاريخ -من جهة أخرى ومن وجهة نظر ما- لن يكون تاريخًا حقيقيًّا، إلا إذا استند إلى رؤية أو فلسفة ذاتية، تجمع الوقائع وتصوغها في صورة قصة لها حبكة وفيها صراع ونتائج.

إذن فالتاريخ والرواية كلاهما نوع من محاكاة الوقائع وسردها، وكل منهما يصوغ الوقائع والوثائق من منظور معين، وكل منهما يستخدم اللغة في صياغة هذه الحقائق.

- 3 -

وفي مقابل هذين التوجهين التقليديين، هناك توجهان آخران يقومان على نظريات السرد الحديثة، وما بعد الحديثة، تلك النظريات التي -كما يقول هايدن وايت مؤلف كتاب "الخيال التاريخي"- "نقضت التفرقة بين الخطاب الحقيقي، والخطاب المتخيل، التفرقة القائمة على تصور اختلاف أنطولوجي بين مرجعية الخطابين، أي المرجعية الحقيقية والمرجعية الخيالية. وقد جاء نقض هذه التفرقة لصالح تأكيد الجانب المشترك بين الخطابين".

إن الفصل بين ما هو تاريخي وما هو أدبي يواجه اليوم -كما تقول ليندا هاتشيون- تحديًا كبيرًا من قِبَل فن (ونظرية) ما بعد الحداثة، "وتتجه القراءات النقدية الحديثة للتاريخ والرواية إلى التركيز على أوجه التشابه لا الاختلاف بين هذين الشكلين من الكتابة؛ فقد لوحظ أن كليهما يستمد قوته من التشابه مع الواقع، وليس من أي حقيقة موضوعية. وكذلك فإنهما يعدان بناءين لغويين استقرت لهما أشكالهما السردية، ولا يمتلك أيهما اليقين الكامل من ناحية اللغة أو البناء، كما أنهما يبدوان متساويين في مسألة التناص، أي استخدام نصوص سابقة في النسيج النصي المعقد لكل منهما".

أحد التوجهين يرى أن "السرد" و"السردية" هما الظاهرة الأشمل، التي تضم كل ما في حياتنا من ظواهر، وأن السرد تمامًا كاللغة، خاصية جوهرية للإنسان، وأن الإنسان لا يستطيع أن يفهم الحياة ولا أن يصوغها بعيدًا عن هذه الخاصية؛ فهو يؤرخ بالسرد، ويكتب العلوم بالسرد، ويفكر بالسرد، ويتحدث سردًا. أو كما سبقت الإشارة إلى عبارة جوناثان كوللر "إننا نتعقل الأحداث من خلال قصص ممكنة. ويذهب فلاسفة التاريخ إلى أن التفسير التاريخي لا يتبع منطق السببية العلمية، وإنما منطق القصة، فلكي تفهم الثورة الفرنسية، مثلًا، عليك فهم السرد الذي يظهر الكيفية التي أفضى بها حدث إلى غيره، فالأبنية السردية منتشرة في كل مكان".

- 4 -

هذه العلاقات الإشكالية بين الرواية والتاريخ، حاضرة دائمًا في كلام منظري ما بعد الحداثة عن قضايا كثيرة، مثل التناص والذاتية والأيديولوجيا، وبعضهم ينظر اليوم إلى القص بوصفه "الأمر الأكبر" الذي يشمل هذه القضايا كلها، لأن عملية خلق القص قد أصبحت شكلاً جوهريًّا من أشكال الفكر الإنساني، وتلعب دورها في فرض المعنى والاتساق الشكلي على فوضى الأحداث، والقص من وجهة نظرهم هو الذي يترجم المعرفة إلى حكي، وهذه الترجمة بالتحديد هي ما يشغل رواية ما بعد الحداثة ومنظريها.

إنهم يميزون بين "أحداث" الماضي أو التاريخ أو حتى أحداث الحياة الواقعية، وبين "الحقائق" التي نتوصل إليها من هذه الأحداث أو نعطيها إياها؛ فالحقائق أحداث أعطيناها معنى. إن مناظير تاريخية مختلفة ستصل من نفس الأحداث إلى حقائق مختلفة.

وهذا الاتجاه يمثله كثير من دارسي التاريخ وفلاسفته على وجه الخصوص، ولعل من أهمهم هنا كولنجوود، وجوتشلك. وقد ركز كولنجوود في كتابه "فكرة التاريخ" على ما سماه بـ "الخيال التاريخي"، وهو الذي يقوم بعمليات ذاتية مهمة، منها الاختيار من بين الوقائع والوثائق المتاحة، وصياغة الفكرة، ثم النقد، وكلها علامات على الاستقلالية التي لا غنى عنها للمؤرخ.

كما أن كولنجوود يتحدث عن الثغرات التي يسدها خيال المؤرخ عبر النقد والإنشاء، بقوله: "الخيال -"هذه الملكة العمياء التي لا غنى عنها"، والتي لا نستطيع على حد تعبير "كانت" أن ندرك العالم المحيط بنا بدونه- ضروري كذلك للتاريخ.

وهذا الخيال الذي ينشط في صورة استدلال عقلي بحت، لا صورة خرافة تهذي وتتخبط، هو الأصل في كل إنتاج للصياغة التاريخية.. يجب أن تنطوي الرواية، كما ينطوي التاريخ، على مغزى، بحيث لا ينبغي أن يقحم في أحدهما تفصيل لا يفرضه منطق الأحداث. والذي يقرر هذه الضرورة المنطقية في الحالتين هو الخيال.

- 5 -

ستجد أن الرواية والتاريخ على حد سواء، يحملان في طياتهما من العناصر ما يكفل تفسيرهما وتبريرهما، بحيث يبدو كل منهما نتاج نشاط مستقل، أو نشاط يفرض نفسه، كما أن النشاط في الحالتين هو نشاط الخيال الإبداعي العقلي.. ولا يوجد ثمة فارق بين إنتاج المؤرخ، وبين إنتاج الروائي؛ بوصف الاثنين من نسج الخيال.

والنقطة التي يختلفان فيها، هي أن الصورة التي يرسمها المؤرخ قصد بها أن تكون صورة صادقة: إن الروائي ليلتزم بشيء واحد فقط- ذلك هو رسم صورة متشابكة متماسكة، صورة ذات مغزى. أما المؤرخ فيلتزم بواجبين معًا- أن صورته يجب أن تستوفي هذا الوصف السابق، بالإضافة إلى رسم صورة ترسم الأشياء بالوضع الذي كانت عليه، وتصف الأحداث على نحو ما حدثت فعلاً"..

لكن بحث المسألة برمتها سيختلف جذريا وموضوعيا ومنهجيا مع سفر هايدن وايت الكبير "ما بعد التاريخ: الخيال التاريخي في أوربا القرن التاسع عشر" الذي ترجمه إلى العربية شريف يونس وصدر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة... لكن هذا يقتضي حديثا آخر.