No Image
ثقافة

مرفأ قراءة... أمل دنقل واكتشاف «قيمة» الشعر

27 مايو 2023
27 مايو 2023

- 1 -

رغم إيماني بمقولة نجيب محفوظ الخالدة: «إن الأدب الذي لا يرتقي إلى مرتبة الشعر - حتى لو لم يكن منظوًما- ليس من الأدب في شيء»، فإنني دائما ما أرهب الشعر وأهابه.. ودائمًا ما أرجئ قرار مطالعة ديوان أو قراءة قصيدة لأوقات طويلة قبل خوض المغامرة والتحضير التام لها، بالضبط مثل إحساس ملامسة ماء البحر البارد والقشعريرة التي تنتابك وأنت تخوض مياهه رويدا رويدا حتى يكتسب الجسم حرارة الماء ويتكيف معها ويبدأ شيئا فشيئا يستلذ إحساس الغمر والطفو على السطح.. ثم الإحساس الجارف بالراحة والمتعة والاسترخاء والتأمل وانطلاق الخيال..

هكذا الشعر بالنسبة لي، مهما غبت عنه، مهما أرجأت قراءة شيء منه.. لكنني أبدا وبمجرد الانخراط في قراءته لا أنسى متعته ولا أفارق لذة اكتشافه..

- 2 -

وقد هيج خواطري حول الشعر وقيمته وجماله بواعثُ قراءة واحد من دواوين الشعر العربي الحديث، بل من أبرع وأجود أجمل دواوينه وأعزها -على الأقل بالنسبة لي- وهو ديوان الشاعر الراحل أمل دنقل الذي مثّل لي (مع رفيقيه صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي) قيمة ومتعة قراءة الشعر الحديث وتذوقه والاحتفال به.

أما أمل دنقل (1940-1983)، الذي تحل ذكرى رحيله الثلاثين نهاية هذا الشهر، فواحد من أنبغ شعراء الستينيات في مصر والعالم العربي، فالمكانة التي يحتلها في تاريخ الشعر العربي المعاصر، التي ترتبط بالإنجاز الذي حققه على المستوى الإبداعي، تجعل منه واحدًا من أبرز الشعراء العرب المعاصرين.

ولا تُحتسب المكانة، في هذا السياق، بالكم الشعري الذي كتبه أو الدواوين التي أصدرها، فأعمال أمل دنقل قليلة مثل عمره القصير، ولكنها أعمال متميزة بما تنطوي عليه من إنجاز ودلالة، كما يقول جابر عصفور، ابتداء من ديوان «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» عام 1969، وكان بمثابة احتجاج وإدانة للعالم الذي أدى إلى هزيمة يونيو 1967، ومرورًا بديوان «تعليق على ما حدث» عام 1971 الذي كان استمرارا لاتجاه الديوان الأول، وكذلك ديوان «العهد الآتي» الذي صدر عام 1975 الذي وصلت فيه تقنية الشاعر إلى ذروة اكتمالها، وأخيرا ديوان «أوراق الغرفة (8)" عام 1983، وقد أصدره أصدقاء الشاعر بعد وفاته بشهور، شأنه في ذلك شأن «أقوال جديدة عن حرب البسوس» الذي صدر عن دار المستقبل العربي في القاهرة عام 1984، قبيل نشر الأعمال الكاملة (أعماله الكاملة صدرت في مجلد واحد يضم الدواوين التي أصدرها في حياته وعددها أربعة دواوين بالإضافة إلى الديوان الأخير الذي نشر بعد وفاته).

- 3 -

والمصادفة وحدها هي التي قادتني إلى إعادة مشاهدة حلقة من برنامج ثقافي مصري شهير كان يذاع على شاشة التليفزيون المصري في حقبة الثمانينيات؛ في واحدة من لحظات النوستالجيا التي تلح علينا كلما كبرنا في العمر وجرفنا الحنين إلى سنوات الصبا والشباب!

أما الحلقة التي أتحدث عنها فهي حلقة أعيد عرضها على شاشة (ماسبيرو زمان) من برنامج «أمسية ثقافية» الذي كان يعده ويقدمه الشاعر والإعلامي والإذاعي الراحل الكبير فاروق شوشة صاحب البرنامج الأشهر في الإذاعة المصرية «لغتنا الجميلة»! وأما ضيوف الحلقة فكانا الشاعرين الكبيرين الراحل أمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي.

بالتأكيد لم أكن قد شاهدت الحلقة لدى إذاعتها للمرة الأولى عام 1983، ولا لدى إعادتها بعد رحيل أمل دنقل في السنة ذاتها، لكني كنت تعرفت على شعر أمل دنقل قبل دخولي الجامعة بسنوات حينما قرأت مختارات من شعره صادرة عن مكتبة الأسرة عام 1996، وكانت مختارات قيمة وعظيمة (أظن أن من كان يقوم باختيارها وإعدادها للنشر المرحوم محمد عناني شيخ شيوخ مترجمي الثقافة الإنجليزية).

ولا أذكر المرة الأولى التي شاهدت فيها هذه الحلقة (قبل أن تتوفر بكاملها على يوتيوب) لكني أذكر جيدا أن كلام أمل دنقل عن الشعر وتصوراته عن جمالية الشعر الحديث، والعلاقة بين الأصالة والمعاصرة، وعن معنى وقيمة وجدوى الشعر كل ذلك استوقفني في حينه، وجعلني أعجب أيما إعجاب بأمل دنقل وبصديقه الأبنودي وقد آمنت مثلهما بقيمة الشعر وجوهره وعدم ارتباطه بلغة أو لهجة معينة.

لم تكن هذه المرة الأولى التي أشاهد فيها هذه الحلقة؛ لقد شاهدتها مرارا بعد ذلك، واستمتعت بها مرارا، وتوقفت عندها مرارا، لكن مشاهدة هذه المرة كانت مختلفة كليا، فَكَمّ من القيم والدروس المستخلصة منها على المستوى الإبداعي والإنساني والفني كانت «مذهلة» بكل المقاييس!

- 3 -

ربما كانت هذه المرة الأولى التي أعي فيها أن تسجيل هذه الحلقة تم في أجواء حارة جدا ولم تكن أجهزة تبريد الهواء قد انتشرت على نطاق واسع داخل استوديوهات التسجيل، وقد فاقم من ارتفاع درجات الحرارة داخل الاستديو كشافات الإضاءة القوية التي كانت تصل درجة حرارة أغلبها إلى ما يقترب من 75 درجة مئوية!

وأن أمل دنقل كان في أيامه الأخيرة وقد خرج من المستشفى خصيصا لتسجيل هذه الحلقة، ويعود بعدها إلى غرفته التي صارت من أشهر غرف المرضى في تاريخ الشعر العربي (الغرفة رقم 8) ويموت بعدها بأسابيع قليلة بعد مقاومةٍ باسلة لمرض السرطان اللعين استمرت لما يزيد على ثلاث سنوات.

استعدت بهجة اكتشاف أمل دنقل القديمة، أمل دنقل الشاعر الكبير المهم المبدع الذي قدم للشعر العربي قصائد لا مثيل لها في الجمال والقيمة والأثر، قصائد حفظناها ورددناها عن ظهر قلب؛ فمن ينسى قصائده الجياد اللافتات «خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين» أو «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» أو «الخيول» أو «من أوراق أبي الطيب المتنبي»، أو قصيدته الشهيرة الجهيرة التي حظيت بانتشار مذهل في كل أنحاء العالم العربي من المحيط إلى الخليج «لا تصالح»، ومن قبلها «الكعكة الحجرية».. إلخ.

أما الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي فقد عرفته من أشعاره التي تغنى بها عبد الحليم حافظ ومحمد رشدي وشادية وعلي الحجار ومحمد الحلو ومحمد منير وغيرهم من نجوم الغناء العربي، كل ذلك فضلا على ارتباط اسم الأبنودي بسيرة بنى هلال أو السيرة الهلالية التي عشقها جمهور الإذاعة المصرية ثم جمهور التليفزيون المصري بغناء وأداء شاعر السيرة الأشهر جابر أبو حسين..

كان «الأبنودي» مجنون الشعر ومبدعه، أعاد الشعر إلى سيرته الأولى يُلقى على أسماع الناس فيطربون ويهشون ويصيحون «الله»، فهو الشاعر والمنشد والمؤدي معا.. كتب القصائد والأغاني التي حفظناها عن ظهر قلب، تغنينا بها ونستعيدها كلما عنّ لنا سبب أو عرض عارض فهاج الذاكرة وحرك أمواجها واستدعى ما كنّ في دواليبها المطمورة.. من طينة فؤاد حداد وصلاح جاهين انعجن وشق طريقه، أكثر من خمسة عقود يصدح ويخلق سيرته الشعرية الكبرى نواتها أبنود وأبطالها فاطنة وحراجي القط وأحمد سماعين وآخرين..

- 4 -

ثمة إجماع بين مؤرخي الأدب ونقاد الشعر في مصر والعالم العربي على اعتبار صوت أمل دنقل الشعري الأجهر والأبرز في توظيفه السياسي وتمرده واحتجاجه على الأوضاع السياسية والاجتماعية ورفضه للهزيمة والاستلاب والخنوع لأي مستعمر أو محتل قريب أو بعيد، داخلي أو خارجي. ومن هنا مثلا أعدّ الناقد الراحل صلاح فضل الشاعر أمل دنقل «أهم شاعر سياسي مصري تجسدت قيمة الحرية في إبداعه».

ولقد كان صلاح فضل ذكيا ورائعا وهو يدرك أن عددا كبيرا من قراءات شعر أمل دنقل قد وقعت في براثن الكشف عن هذا البعد وحده، لكنه آثر ألا تكون قراءته لإبداع أمل دنقل مقصورة على هذا البعد، وأن يكون المهم في قراءتنا له اليوم «ألا تحجب عنا شجونه السياسية التي ما زالت حية تأملَ منجزاته الفنية والتقنية التي جعلت منه نموذجًا رفيعًا للشعرية»‏.‏

وهكذا يضع صلاح فضل يده باقتدار على جوهر قيمة شعر أمل دنقل وجماليته الذي لم يلبث في بحثه عن تجليات الحرية الشخصية والإنسانية في رحلته الشعرية أن يمزج بينها وبين الحرية السياسية في سبيكة واحدة، وأن يبحث عن صيغ مجازية تكسب القيمة التي يتغنى به عمقا وجوديا يضرب في أعماق الروح‏، بقدر ما يجسد حواجز الجسد..

(وللحديث بقية)