No Image
ثقافة

ما الذي يدفع السوريين لبيع مكتباتهم المنزلية وما فيها من كتب؟

29 مارس 2024
29 مارس 2024

ظاهرة ثقافية برزت مع سنوات الحرب على سوريا، وشكلت لدى المتابعين للشأن الثقافي وحتى الاجتماعي والاقتصادي قلقا على الحال الذي وصلت إليه الأوضاع لدى الشعب الذي بات يفكر في كيفية البقاء على قيد الحياة.

بيع المكتبات والكتب المنزلية، ظاهرة سادت كثيرا في السنوات الأخيرة، وبالكاد يخلو منزل سوري من مكتبة حتى لو كانت متواضعة فيها العشرات من الكتب القيمة، حتى لو لم يكن صاحب تلك المكتبة أديبا، أو يعمل في الشأن الأدبي، فهناك كثير من الأشخاص لديهم نهم القراءة وجمع الكتب، وبالتالي يتشكل في كل بيت نواة مكتبة مميزة.

اقتناء الكتب كان في السنوات التي سبقت الحرب أيضا عادة محببة لدى السوريين، وكنت أعرف مكتبات عديدة تبيع الكتب بالتقسيط، وهناك من يقبل على شرائها بكل أريحية.

أما بعض المنازل التي تحتوي على مكتبات يمكن اعتبارها ضخمة قياسا على ماهو موجود فيها، فغالبا ما تعود لمهتمين بالشأن الأدبي ولهم علاقة بالعلم والأدب والتعليم أو غيره من المناحي الثقافية، ففيها من الكتب المهمة والقديمة والنوادر من أمهات الكتب ما يمكنك أن تقول عنها قيمة جدا.

كثير من بيوت السوريين تعرضت للتخريب في المناطق الساخنة، ومما لم يتم تدميره تعرض «للتعفيش» ونهبت مقتنياته، ومنها الكتب.

وممن نجا من ذلك الخراب، وبقيت مقتنياته موجودة ومن ضمنها المكتبات، لم يجد حلًا سوى أن يفكر فيما سيفعل بما تبقى تحت ناظريه من كتب قد لا يعرف محتواها وما يريد منها.

أسباب البيع

وسط دمشق يقع أكبر حي توجد فيه المكتبات منها القديمة جدا، والحديثة، إنه حي الحلبوني الممتد على مساحة واسعة، وتكاد رائحة الورق تنبعث من شوارعه.

وخلال تجوالي اليومي في هذا المكان بحكم وجودي بالقرب منه، كنت أشاهد المكتبات القديمة، وأعرف جيدا غالبتيها وما تحويه من نفائس، ومن هذه المكتبات «مكتبة عبادة»، حيث وجدت صاحبها الذي أعرفه منذ سنوات مضت يقوم بإنزال دفعة من الكتب، وأعرف ولعه بالكتب القديمة، ولكن هذه المرة الأمر مختلف فكمية الكتب كبيرة، سألت محمد زكي يوسف صاحب المكتبة، ماذا يجري، وهل تحتاج لمساعدة؟ شكرني وقال: سأحدثك بعد قليل عن الموضوع، وفعلا بعد أن انتهى جلسنا وأوضح لي: «يأتيني بعض الناس يعرضون علي مكتباتهم لكي أشتريها، وأحيانا أذهب لمعاينتها لكي أعرف ما فيها، وأقدر سعرها، وهل فيها ما يستحق الشراء والتخزين وإعادة البيع، ثم نتفق أو لا نتفق على السعر أو على جودة الكتب».

ولكن ما الذي يدفع هؤلاء لبيع مكتباتهم المنزلية، وهل تجد أن بعضها تستحق الشراء..؟

أجاب أبو عبادة قائلا: «ليس كلها بجودة عالية، ولكن أحيانا نشتري مكتبة بأكملها من أجل عدة كتب ثمينة فيها، وتوجد مكتبات جيدة وفيها عدد لا بأس به من الكتب، وشغف السوريين بالقراءة يدفعهم لاقتناء الكتب، وأهم هذه المكتبات ما تكون لدى المهتمين سابقا بالثقافة ممن يكون أستاذا جامعيا أو أديبا، أو باحثا، أو لديه ميول أدبية أخرى، هؤلاء يقتنون كتبا متميزة، أما عن دوافع البيع فهي مختلفة فغالبا ما يكون بسبب ضيق المكان، أو بداعي السفر، أو بسبب بيع المنزل، أو وفاة صاحب الكتب، وهنا يكون الورثة ليس لديهم ميول ولا يهتمون بالكتب، وأحيانًا كثيرة بسبب ضيق ذات اليد».

لم نعد بحاجة لها

في رحلة البحث عن دواعي هذه الظاهرة توصلت إلى أحد الذين قاموا ببيع مكتبة المنزل، ورفض ذكر اسمه علانية وفضل الإشارة إليه بالرمز «خ.ب» وسألته عن سبب بيع مكتبة أهله فقال: «لا أخفيك سرا أن السبب الرئيس هو ضيق الحالة المادية للعائلة بشكل عام، واختلاف الاختصاص، فلا أحد من إخوتي دخل مجال الوالد نفسه في المجال الثقافي، ولذا فكثير من الكتب لن يستفاد منها إن بقيت في المنزل، وستكون عرضة للتلف والغبار، وقد اتفقنا كعائلة على بيعها مع أنها تضم كتبا نعرف أنها ثمينة، ولكن ما باليد حيلة، وقد أبقينا على مؤلفات الوالد المخطوطة، وما عليها من هوامش وتعليقات، ونتمنى أن نستطيع في قادم الأيام أن ننشرها له بوسيلة ما».

خسرنا الأهم

وفي تواصل آخر عبر أحد الوسطاء من بائعي الكتب ممن يجلسون تحت الجسور وبجوار الجامعة، مع أحد الذين باعوا مكتبتهم وطلب عدم ذكر اسمه ويدعى «سمير. ج» فقال: «وماذا عسى أن أفعل بالكتب وسط ما نمر به من هذه الحال، في الأصل لم يعد لدينا وقت للقراءة، وكل مضى في حال سبيله بالنسبة للعائلة، ووجدتني أمام مكتبة الوالد الذي ورثها أيضا عن والده، وأعرف أن فيها كثيرا من أمهات الكتب، وقد أشار لي أحد الأصدقاء ببيعها والاستفادة من ثمنها، ولعل أحدا غيرنا يستفيد منها أيضا، فتوجهت إلى منطقة الحلبوني، وحيث بائعي الكتب القديمة على الأرصفة وعرضتها عليهم، بعضهم قدم لي سعرا بخسا، والبعض ماطل، وأخيرا توصلت مع أحدهم لسعر مقبول نوعا ما، وبعته إياها، على أن يتحمل هو تكاليف النقل» وبادرته بسؤال: ألست منزعجا من بيعها، وربما فيها بعض من الذكريات مثلا..؟ أجابني والمرارة تكاد تخرج من فمه: «خسرنا الكثير في سنوات الحرب المجنونة، حياتنا وذكرياتنا، وأرواحا كثيرة، وأشياء أكثر أهمية منها، خسرنا كل شيء، لن نأسف على هذه الكتب، على الأقل سنستفيد من ثمنها لأيام قادمة».

غياب سوق الكتب

أعود إلى صاحب مكتبة عبادة محمد زكي وأسأله، ماذا تفعل بالكتب التي تشتريها، وأرى خلفك رفوف الكتب مرصوفة، فيقول: «هذه مهنتي، وهذه مكتبتي، وهناك من يأتي ليشتري مني الكتب النادرة التي قد أجدها بين تلك المكتبات التي أشتريها، وسابقا كنا نبيع الكتب للأسواق السعودية أو الكويتية أو القطرية أو الخليج بشكل عام، واليوم لا يوجد سوق إلى هناك ولعلها اكتفت بعد أن أخذت حاجتها، بينما الآن نبيعها بالمفرّق، وغالبا يكون البيع حاليّا للهواة، أو للتجار فيما بيننا، ولكل تاجر له زبائنه، وأنا شخصيًّا كانت لدي علاقات وتواصل مع (تويو بونكو) دار الكتب الشرقية في تركيا يطلبون مني كتبا ومجلات، وغالب المستشرقين اليابانيين والأمريكان والألمان والفرنسيين كانوا يترددون على مكتبتي، وحتى الأتراك في الأيام الخوالي وغيرهم، ولكن منذ ثلاثة عشر عاما، انقطعنا عن العالم، فلم يعد من غريب يأتي ليشتري، حتى ابن البلد ترك الوطن وهاجر».

الأعذار مقبولة

يقول الكاتب د. عبداالله نفاخ الذي لديه اهتمامات كثيرة بمجال الكتب أيضا «من الطبيعي وفي ظروف اقتصادية بالغة السوء وتغييرات ذهنية واجتماعية وفكرية كبرى طرأت على مجتمعاتنا خلال هذه الحرب المجنونة أن يسارع أصحاب المكتبات الخاصة أو ورثتهم إلى بيع مكتباتهم أو حتى قسم منها، خصوصا وأن بعض تلك الكتب قد انتهت حاجتهم منها، وأن بعض ورثة المكتبات بعيدون عن هذه الميول ويعملون في اختصاصات أخرى.

وشخصيا أعرف غير ذي شخص باعوا أو حاولوا بيع مكتبات آبائهم رغبة في ثمنها لكي يساعدهم في مواصلة العيش، وهذا الأمر قد يبدو مزعجا بادئ الأمر، ولكننا حين نضعه في سياق الوضع العام نجد أن عذر أصحابه كبير ومقبول.

بالتأكيد لهذه الظاهرة فوائد ومضار، ومن هذه الفوائد أن بعضا من هذه الكتب لها قيمة علمية وأدبية وربما نادرة وقد تقع في أيدي من لا يقدر قيمتها وحرام أن تبقى حبيسة المكتبات، وهناك من يحتاجها فعلا، ومن المضار أنها تجعل البيوت خالية من الثقافة لصالح أمور أخرى قد لا تكون ذا فائدة مثل الكتب».

مصادر متنوعة

بجوار الجامعة وعند جسر الرئيس يتجمع هناك عدد لا بأس به من بائعي الكتب المستعملة، وكذلك على أرصفة الشارع المحاذي للتكية السليمانية والمتحف، وكذلك في سوق الكتب ضمن سوق الحميدي «المسكية» وسط دمشق يكثر هؤلاء، وسألت أبو جابر «اسم مستعار» من أين لك كل هذه الكتب، وهل هناك إقبال عليها؟ أجابني: «أشتريها ممن يأتون علي حاملين عددا لا بأس به منها في كرتونة أو شنطة، بعد أن أتفقدها أشتري ما يحتاجه السوق مني، حيث يوجد إقبال على الروايات العالمية والكتب التاريخية، بعض الطلبة يتركون لدي وصية بكتب معينة وعندما أجدها أتواصل معهم ليأخذوها، وطبعا يأخذونها مني بثمن أقل مما تباع به وهي جديدة، والفائدة تعود لي ولهم».

وهل تسأل من يأتيك عارضا كتبه عن مصدرها، ولماذا يبيعها؟ أجاب أبو جابر: «في غالب الأحيان يكون هناك حوار مستفيض بيني وبين من يبيع كتبه، في بعض الأوقات لا أحرجه بالسؤال عن المصدر، ولكنني أعرف من سياق الحديث أنها من مكتبة منزله، ويبيعها لأنه يريد أن يتدبر أمرا ما بثمنها، وبعضهم لم يعد يحتاج لها، والبعض الآخر يكون قد نوى السفر، أو جاءته من صديق أو قريب له مسافر وأعطاه هذه الكتب ليستفيد من ثمنها بطريقته، في العموم هناك حالات كثيرة بعضها محزن جدا، وأنت تسمع الروايات من فم أصحابها».

ثقافة مجتمع

عن هذه الظاهرة وأسبابها وتأثيرها يقول الشاعر والصحفي عبد الوهاب محمد: «أكثر البيوت التي يتم تأسيسها في الزمن الحاضر تغيب عنها المكتبات المنزلية كديكور ضروري في تشكيل الأساس المنزلي، فالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية جعلت الثقافة آخر اهتمامات المواطن العربي، ووجود المكتبة المنزلية في أي بيت ليست شرطا يدل على اهتمام أصحابه بالثقافة والأدب فهناك من يضعها كمنظر جمالي في المنزل ولا يعرفون ما تحويه من كتب وعناوين».

ويتابع عبد الوهاب مجيبا عن سؤالي: «بالنسبة لظاهرة بيع محتوى المكتبات المنزلية المنتشرة في السنوات الأخيرة اعتقد أنها ليست ظاهرة جديدة، نعم قد تكون انتشرت بكثرة، والسبب الأهم بذلك كما هو معروف الوضع الاقتصادي والحاجة المادية للمواطنين».

فأول ما يفكر المواطن ببيعه عندما تضيق به الأحوال المادية هو الكتاب، وخاصة إذا كان قد ورثه عن أسلافه وليست لديه اهتمامات ثقافية، كما أن تطور التكنولوجيا وغزو الكتاب الإلكتروني أفقد الاهتمام بالكتاب الورقي، ومع انتشار موجة تعليم العقول على القراءات السريعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بات الكتاب كمزهرية في المنزل، صحيح أن ظاهرة بيع المكتبات المنزلية منتشرة ولكن يجب ألا ننسى أن الطلب على الشراء ضعيف، إن لم نقل أنه نادر.

وسبب البيع يخيم أيضا على سبب ضعف الشراء، وهو الحالة الاقتصادية والمادية للمواطن، وفي الختام نقول مصير الكتاب الورقي المنزلي متوقف على ثقافة المجتمع وحالته الاقتصادية والتأثيرات الفكرية الخارجية فقد يندثر وقد يبقى».

كي لا تضيع البوصلة

بغض النظر عن وجود هذه الظاهرة قديما أم جديدا، وأقصد بيع المكتبات، فأنني أجزم ومن خلال معرفتي بهذه الأمور، أن المواطن السوري لم يكن يقدم على بيع ما بحوزته من كتب في السابق، وغالبا ما كانت المكتبات يتم توارثها من جيل إلى جيل، ربما يكون هناك إهمال في الموضوع من قبل الأبناء، ولكن في ظل الظروف الحالية للمجتمع السوري برمته، نلمس تبدل كثير من المفاهيم الحياتية على كافة الصعد، وإن باتت الثقافة نوعا من الترف في حياة المواطنين، وقياسا للدخل الذي يتقاضاه لم يعد بإمكانه توفير مثل هذه الكماليات، إذ بات سعر الكتاب المستعمل يتعدى الـ25 ألف ليرة سورية وسطيا «حوالي دولارين» وهو سعر مرتفع بناء على الدخل الشهري ما يقارب «25 دولارا» ولذلك فالتوجه نحو بيع الكتب يأتي لأسباب كثيرة تم ذكر بعض منها، وإن كان الغالب فيها الوضع الاقتصادي بشكل عام وما تعانيه الأسرة السورية، فيما يأتي غياب الاهتمام وانصراف الأبناء أو الورثة لاهتمامات أخرى بعيدة عن الكتب، كما كان للهجرة السورية نحو الخارج تأثير واضح في هذا الموضوع، إضافة لخوف البعض من سرقات المنازل ولم يعد السارق يوفر حتى الكتب.

أما من يشتريها اليوم فهو عادة لديه خبرة واسعة في تجارة الكتب ويعرف الغث من السمين فيها، ويعرف أسواقها الداخلية والخارجية، وما يشتريه اليوم بسعر ما، سيبيعه غدا بأسعار مضاعفة.

ومهما يكن من أمر فإن هذه الظاهرة مؤشر خطير في أي مجتمع، فكيف بمجتمع خاض حربا على مدى ثلاثة عشر عاما، وضاعت كثير من الموروثات الثقافية والاجتماعية وطغت على السطح الثقافة الاستهلاكية الهشة، ويحتاج من جديد لإعادة تأهيله وصقل ثقافته، فهناك ثلاثة أجيال عانت الأمرين خلال تلك السنوات الماجنة، ولم يعرفوا من الثقافة حتى اسمها، وهذا الأمر يجب أن يكون تحت مجهر الجهات المعنية بالثقافة والمجتمع المدني كي لا تضيع بوصلة الثقافة بسبب غياب الكتاب والمكتبات من المنازل.