No Image
ثقافة

عن غزة الصامدة يوميات الثقافة والنار

18 أكتوبر 2023
18 أكتوبر 2023

يبدو صمود الغزيين أمام مجازر الاحتلال وأطنان القنابل والصواريخ التي تلقى عليهم أمرا يشبه المعجزة، الصواريخ التي ما زالت تلقى فوق غزة يوميا يفوق عدد الصواريخ كاملة التي ألقتها أمريكا فوق أفغانستان في أسبوع، عائلات كاملة تم إبادتها وأزيلت من السجل المدني، أبراج جديدة لم يسدد المواطن فيها ثمن شقته بعد قصفت على ساكنيها، لا كهرباء لا وقود، لا ماء، أما آخر جرائم المحتل فهو تهديده بقصف المشافي، وتبين أن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء (وهي فكرة قديمة تداعب أحلام إسرائيل) بدأ يأخذ أبعادا واضحة بعد أن طلبت إسرائيل رسميا من مصر فتح معبر رفح أمام السكان، للخروج، حساسية فكرة التهجير في ذاكرة الفلسطينيين الذين لدغوا مرتين من نفس جحرها، تم رفض الفكرة بقوة، حراس الوعي في فلسطين هم المثقفون الذين يسهرون بالكتابة والمواقف على ترسيخ ذاكرة المقاومة والتصدي لكل أصوات التعب والاستسلام والتواطؤ والتطبيع، وقد استأذنتُ أدباء وشعراء غزة الذين يعيشون الآن تحت النار وبعضهم فقد أعزاءه طالبا منهم شهادة أو رسائل يوجهونها للناس أو للعالم أو لأنفسهم، فوافقوا على الفور.

بقعة كونية

يقول الشاعر ناصر عطا الله: (بقعة كونية صغيرة يطلقون عليها غزة يحضنها البحر المالح من الغرب، أما شرقها كما شمالها، وجنوبها أسوار عالية تسلم على طائرات تحمل الموت، وعيون "أموس" الفاحصة التي تطارد النملة العرجاء في أوكارها.. غزة اليوم تطير فيها مليوني روح، وأكثر وأجسامها هزيلة، جائعة، عطشى، وكثير منها تبرأت من أصحابها وعفتها تحت الركام، وفوق الأرصفة المحطمة، قرب الأشجار المقتولة، والأعشاش المبعثرة بدماء زغابها، ولا تطيقها الحياة لتتلاشى الأجسام؛ جرم مجهرية في كل مكان، حتى تحت مأذنة سقطت كرأس يحيى المغدور دون أقدام المارة.

غزة الآن لم تعد خمس مدن مضاءة بالأنوار، ولا براقة كعروس خجولة، ولم يعد سكانها بمرح، وغير جاهزين للاصطفاف أمام محلات "الآيس كريم"، ولم يعودوا نزلاء أمام البحر، ولا متنزهين في حديقتها العامة الوحيدة، ولم يعد مثقفوها في حلقات الندوات، ومبتسمين في حفلات توقيع الكتب، لا وقت لديهم للغيرة على المتنبي، والبارودي، ولم يعودوا إلى أسرتهم ذات الشراشف الملونة، ولا لصورهم التي حفظت أزمنة بعد أن أخذت عفوا أصحابها وأمرت بعرفها أن لا تعود.. غزة اليوم لم تعد تطيق حصارها فزأرت أمام سجانّها، لكنه لم يرحمها؛ فحولها إلى مقبرة، خمس مدن كانت تربي أزهارها برقة طي الحرير خوفًا من خريف مبكر، كانت تطيّر ضحات الأطفال، وتغازل آيائل الحناء، وتغزل للشمس مواعيد العشاق، وتحمل بريد المشتاقين إلى ما وراء الحصار، اليوم باتت مقبرة، كومة دمار، وغصة في ضمير كل قليل حيلة، ووصمة عار في جبين كل متخاذل).

غزة تعامد الشمس

الناقد أبو بكر البوجي يقول: (سنكتب بالرصاص إذا لم يكتب العرب بالحبر الأسود. قلم الرصاص هنا أبقى من كل الكلمات. أبلغ من كل الخطب والعبارات. قلم الرصاص يعمل بلا ماء ولا كهرباء ولا طعام.. يعمل باليد الفاعلة المخططة، يكتب من نور الشمس وشعاع الأمل، غزة الفلسطينية باقية تعامد الشمس طلبا للحرية. والحرية الرصاصية المخضبة بالأحمر القاني بدم عنترة العبسي لحظة تحرره.. هنا من غزة أخط لكم من فوق جنازير الخنازير الأمريكية، ثم أضع قلمي الرصاصي في فوهتها لتكتب حروف الموت والنهاية للمشروع الأوروبي الأمريكي. نهاية الموقع العسكري المسمى يزرائيل. أمريكا ترسل كل طاقاتها المجنونة ضد رصاصة غزة، غزة سمعت صراخ السكارى في مسرح راقص لجند الشيطان خلف الجدار. وغزة تموج عطشا وجوعا.. تسمع صراخ السكارى في موقع عسكري، هنا بدأ الرصاص يكتب كلماته من نور الشمس في لحظة فجر قمري ساخن، غزة تشرب ماءها من عصير السحاب وتثبت أقدامها من عمقها العربي، غزة لم تركع لغاصب في تاريخها، ولن تركع حتى لو قطعوا ظلها على مساحات الأرض، تبقى فلسطين الأصل والوصل).

أمي: الأمور جيدة

الشاعر الشاب عامر المصري المقيم في الإمارات يكتب عن مشاعره تجاه أهله وشعبه في هذه اللحظات العصيبة: (لا تُشبه هذه المرة أيّ مرةٍ سابقة، أنا في الخارج بينما أهلي يعيشون هُناك تحت القصف وبجانبه ومعه. أنا الذي تَعودتُ طوال 26 عامًا أن أشعر مَعهم بكلّ اهتزازة للبيت، وكلّ خَوف من الموت، وكلّ موت أتى وذهب ولم نعرف أنه موت. أكلّم أمي مرةً في اليوم، وأحيانًا نصف مرة، وتُصرّ في كلّ مرة على أن الأمور جيدة، رغم أنّ صوت القصف يكون أعلى من صوتها، أحاول الكتابة مرة واثنتين وعشر، وأفشل. كأنّ الكلمات كلها سُرقتْ منّي دفعةً واحدةً يوم السابع من أكتوبر. فلا أكتُب ولا أستطيع حتى التفكير فيما يُمكن أن أكتب، فكيف يكتب الواحد منا وأهله يموتون أفرادا وجماعات؟ وكيف تَصف الكلمات مأساة شعبٍ يُسحب من قدميه إلى نكبةٍ ثانية؟ هذه المرة لا تُشبه أيّ مرةٍ سابقة، فشظايا الصواريخ التي تقذفها الطائرات، تقتلنا حتى ونحن خارج غزة).

يا قاهر الجبابرة

المثقف والناشط الثقافي رزق لمزعنن يقول: (ليس هناك شعور أصعب من العجز، العجز عن نصرة الحق، العجز حين يهزمك الباطل ويتفوق البهتان، ألّا تبدو في عين ابنك بطلًا، ألّا تستطيع أن تحول بين ذويك وبين القهر، أن ينظر من ينتظر الموت إليك فتشيح بوجهك من قلة حيلة، أو أن تبادله بنظرة تقتل فيه الذرة الباقية من الأمل. فاللهم يا رب الكون المهيمن على القوي والضعيف، اللهم يا قاهر الجبابرة وكاسر الأكاسرة، امددنا بعون من عندك. اللهم عاملنا كما يليق بعظمتك).

تكره الليل

ويرى الشاعر عثمان حسين المشهد بعيون مختلفة، إذ يقول: (الناس في غزة تكره الليل، حيث يتجول الموت في الأزقة والطرقات، يملأ عيونهم ولا يرونه، يتخطفهم زرافات زرافات دون أن تكون لهم القدرة على مجادلته أو التملص والهروب إلى حيث النجاة.. والناس في الحرب يكرهون الليل، فتراهم يحذرون النهار وأنفسهم من قدومه السريع، وحين تطبق العتمة عليهم، يتباكون على النهار، حيث الموت فيه واضح ومرئي، وربما يكون مفهوما رغم سورياليته).

نحو الجنوب

وفي يومية من يومياته تحت النار يكتب الكاتب طلعت قديح: (لم أعد أحس بالوقت، أتمنى أن يطول النهار ولا يأتي الليل، الليل متآمر مع الخوف، والخوف ابن لقيط لرهبة الصوت.. لم أتوقع وجود (نت) شوارع، ودّعت ابني شاهر في اليونان على المسنجر ليلا وقلت له: الك الله يابا، وأقفلت والقلب يئن ويصرخ ااااااااااااه.. الناس يتكلمون مع بعضهم فقط ليمارسوا تحريك أفواههم، بدل أن يسكتهم القهر، يحاولون التنقيب عن الحكايا القديمة، يحللون، يثرثرون ....

في المدرسة الحال شيء فظيع، كل شيء بالدور، ولا شيء هناك.. الكل خائف، والصلاة جماعات جماعات، الناس يمشون في الشارع لتأمين أي شيء يقيهم العوز، والتجار لا دين لهم، الوقود نفد في محطات التعبئة، والغاز غير موجود، اليوم وبالأمس حركة نزوح نحو الجنوب.. المعبر أقفل بالباطون، ننظر إلى السماء كي تظل زرقاء اللون، لا نحب أن تتوشح بلون الغيم، الأمر سيسوء جدا.. كانت توزع وكالة (الانوروا) الخبز مع علب مرتديلا، اليوم لا خبز.

سمعنا في التحليل السياسي أن الحرب في أقل تقدير تحتاج لشهرين! لن تبقى غزة خلال الشهرين، لن تجدوا حيا أو حائطا قائما، ومن سيعيش لن يكون كما كان، الحال بكل تفاصيله جنون في جنون)..