عبدالرحيم جيران .. مشروع نص مستمر
كنتُ أقول للشاعر المغربي محمَد العنّاز: "يكفي أنك عرّفتني بالدكتور عبدالرحيم جيران ليُدخلَك الله الجنة". حدث هذا في عام 2014م على الأرجح، فكانت واحدة من أجمل المصادفات وأكثرها تأثيرا على مساري البحثي والإنساني. لم أكن أعرف قبل أن ألتقيَ جيران، أنني على وشك أن أصبح ابنةً متبنّاةً من هذا الرجل الذي رزقه الله بولدين، فكنتُ ابنتَه كما صار يصرّ على تعريف الآخرين بي، ويصدّقونه، وكما سبق أن أشرت في نص "المغرب .. البلاد التي تعرفني" ونُشر في جريدة عُمان قبل أن يضمّه كتابي "أزهار زرقاء لقميص الغابة" الصادر عن دار الآداب في 2024م.
في بيت عبدالرحيم جيران عرفتُ طعم الكسكس المغربي لأول مرة، وامتلأتُ برائحة البيت الأنيق الذي يجمع بين جنباته ذوق المثقف، وحسّ الناقد، وانتقاءات جامع التحف النادرة، فيشرح لي بمحبة غامرة تاريخ كل واحدة منها وموطنها الأصلي الذي جلبها منه. ولكنه في وقت العمل يقيس كل شيء بصرامة، كأن يحدد لي مثلا متى يجب أن أستيقظ في الصباح لنبدأ رحلة الكتابة. تُقلّنا زوجته خالتي فاطمة بالسيارة، وننزل هو وأنا في مقهى حدائق الحمراء على شاطئ البحر، وتعود هي إلى البيت لقضاء شؤون بيتها. يعمل كلٌ منا على جهازه المحمول، ولا نقاش خارج المسموح به من الأفكار موضوع الكتابة. في ذلك الوقت كان يعمل على مشروع كتابه "الذاكرة في الحكي الروائي" الذي صدر لاحقا في عام 2019م، وكنت أعمل على أطروحتي. يراقب في نهاية كل نهار مقدار ما أنجزت؛ فالشرط عنده أن أكتب وحسب من دون أن أقيّم جودة ما أكتبه، إذ إن الأساس في هذه المرحلة أن أقيّد الفكرة ولا أضيّع الوقت في مناقشة جودتها وجودة صياغتها ما لم تكن الصياغة مانعة لتدفقها. بعد ساعات من العمل نقفل عائدين إلى البيت مشيا على الأقدام بمحاذاة شاطئ مارتيل الساحر، ونتحدّث عمّا نحلم أن نكتبه. ذكرتُ في مقدمة كتابي "لا شيء أكثر أهمية من متعة اللعب" - الصادر عن دار الرافدين في 2024م - أنه حدثني في أحد مشاوير عودتنا من المقهى، عن كتاب الذاكرة آنف الذكر، وقال: "لقد كتبتُ فيه كل ما عندي من أفكار، تستطيعين أن تبني عليه وتضيفي إليه أفكارا جديدة"، فقلت في المقدمة نفسها: "إنني لم أعد أمشي بعد جملته تلك، بل كنت أطير"! ولكن لأن الكتابة عنده مشروع مستمر، أصدر عن الذاكرة كتابا آخر في عام 2024م حمل عنوان "الذاكرة المقنّعة في ألف ليلة وليلة".
في بيته يهديني من مكتبته كتبا تخدم موضوعي، ويفرض عليّ في الوقت نفسه واجبات لأنجزها في مُهَل محددة، ويطلب مني أن أرسل له الفصول التي أنجزها تباعا. ولدى عودتي إلى عُمان يوصيني ألا أتوقف عن الكتابة أبدا. ولكن حدث أن أُصبتُ بحبسة، والأطروحة لا تتقدم سطرا واحدا لمدة طويلة قاربت العام، حتى استسلمت وأبلغته أنني أفكر جديا في الانسحاب من الجامعة! هاتفني على الفور، وسألني إن كنتُ أستطيع أن آخذ إجازة من العمل وأحجز تذكرة إلى المغرب خلال أسبوع. سافرتُ إليه وجاء مستقبلا في محطة القطار.
كان يعرف أني أكتب أكثر ما أكتب في المغرب، وأحسب أنني كلّما احتجت إلى الكتابة لا بد لي من ذلك البلد الساحر. أمضيت شهرا، ثم أتبعته بآخر ما بين الرباط ومارتيل، كتبتُ فيهما ما لم أكتبه في عام كامل. بيد أنه في هذه المرة كان قد خضع لعملية في عينيه حرمته متعتيه: الكتابة والقراءة. ولكنه كان ينصت لساعات وأنا أقرأ عليه فصول أطروحتي في مقهى "لافنيو"، ويرفض أن أختصر أو أقفز على الفقرات؛ فيوقفني هنا، ويناقشني هناك، ويطلب أن أعمّق الفكرة هنا، ويستحسنها هناك. أنتشي بإيماءات وجهه السعيد لدى سماعه فكرة هذا المبحث، وأغتبط بملاحظة قاسية على مبحث آخر، ويمنحني مُهلة حتى الغد لأصحّح وأعودَ إليه بالتعديل.
وبينما كنتُ أوشكُ على إنهاء قراءة الفصل الأخير بعد أيام طويلة من الدأب اليومي، سألته بصدق مُستشرفةً رأيه: "هل سيجيزونها يا أبي؟" قال: "حتما". فشعرتُ أنها أجيزت للتو، وقد ملأني شعور عارم بالاطمئنان المطلق! وبقيت أتذكر هذه الـ (حتما) كلّما أصابتني رهبة ما قبل المناقشة التي تمنيت حضوره فيها، ولكن حال عينيه لم يمنحني هذه البهجة الخالصة، بيد أن دعواته ودعوات خالتي فاطمة كانت تصحبني طوال الوقت.
زار عبدالرحيم جيران عُمان مرتين، مرة في عام 2015م بدعوة من النادي الثقافي، شارك فيها بورقة ضمن ندوة عن "الفرجة في المجتمع العماني"، ثم استضافه مختبر السرديات - قبل أن تتوقف أنشطته - في جلسة أخرى على هامش الزيارة. وقد وثّقت زيارته تلك بمقال عنوانه "عبدالرحيم جيران .. قداسة الشعر وقصة مصادفة" نشرتُه في القدس العربي بتاريخ 9 فبراير 2015م. ثم جاء بعد ثلاثة أعوام تالية في زيارة أخرى، ولكن هذه المرة بدعوة من الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، ليشارك في ندوة عن "الذاكرة والتأويل في الرواية" ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب، بتاريخ 27 فبراير 2018م. قدّمتُه في تلك الليلة، ونشرتُ تقديمي عنه في صفحتي على الفيسبوك بعد الجلسة مباشرة، وأودّ استعادة ما قلته ليلتها لأنه كاشف عن الشخصية التي تختبئ خلف منجزه النقدي المهم، فكان مما قلتُ بتصرف:
"تمر بالمحظوظين منا مصادفةٌ تغيّر مسار حياتهم. المصادفةُ التي يرتبها القدر لنا جميعا، ولكن المحظوظين فقط هم الذين يدركون رسالتها، فيما يمضي الآخرون عن مصادفتهم بعيدا دون أن يروها.
المصادفة التي حوّلت مسار حياة عبدالرحيم جيران، حدثت في عام ١٩٨٦م بعد مناقشته لرسالة الدكتوراه، وأصبح متعيّنا عليه التسجيل لأطروحة دكتوراه الدولة كما كانت الأنظمة تعمد في الجامعات المغربية، وفي مكتبة آل سعود في الدار البيضاء وقع على كتاب كُتب بالفرنسية لباحث برتغالي يسمع به لأول مرة يدعى پتيتوكوردا، تحدّث فيه عن النظرية الكارثية حمل عنوان "التكوّن الشكلي للمعنى".
كان هذا الكتاب كافيا لأن يجعل جيران يقرر عدم المضي في التسجيل لدكتوراه الدولة، بعدما وجد أن پتيتوكوردا يتناول التكوّن الشكلي للمعنى منطلقا من علوم تطبيقية لا يملك هو مفاتيحها كالرياضيات والبيولوجيا.
ومن فوره عكف على دراسة الرياضيات والبيولوجيا والمنطق، بالإضافة طبعا إلى علم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم الإنسانية. استغرقه الأمر خمس سنوات حتى يطمئن إلى أنه يقف على أرض معرفية جيدة تخوّله خوض غمار بحث علمي يتوخّى فيه أن يضيف جديدا كما هو الشأن في هذا النوع من الأطروحات العلمية المسماة بدكتوراه الدولة، فكان عن مستويات بناء النص الروائي في رواية "شرق المتوسط" لعبدالرحمن منيف، لينقطع خلالها للبحث والقراءة والكتابة عشر سنوات أخرى قبل أن ينشر الجزء النظري فقط من أطروحته في كتابه "علبة السرد".
ومنذ عام ٢٠٠٥ ظهر البروفيسور عبدالرحيم جيران للمتابع المتتبع باحثا صلبا ما انفك يفتش عن المعرفة من غير وثوقية؛ فهو من الأسماء العربية القليلة التي تحاور المنجز الغربي وترد عليه دونما تهيّب أو تبجيل، فيؤلّف كتابَه "إدانة الأدب" ردا على طروحات تودوروف في كتابه "الأدب في خطر". وحدث في مسقط - في ندوة "ما وراء الشرفة" في جناح بيت الزبير بمعرض الكتاب 2018م - أن قدمت الصديقة هدى حمد ورقتها عن "مستقبل الرواية" مورِدة مقولة لرولان بارت يقول فيها إن الرواية باقيةٌ ببقاء الحكاية، فيرد جيران معلّقًا وقد كان بين الحاضرين: "لا يا سيدي يا رولان بارت؛ الحكاية ليست هي الرواية! الحكاية أزلية، تَحقّقَ وجودُها قبل الرواية، ومن المرجّح أن تبقى حتى بعد أفول نجم الرواية". انتهى تقديمي لجيران في تلك الأمسية.
في نوفمبر 2018م التقينا في الرباط في ملتقى الشارقة للسرد العربي، حيث كنت أشارك برفقة سليمان المعمري من عُمان. في بهو الفندق التقى عبدالرحيم جيران وخالتي فاطمة بالروائية اللبنانية علوية صبح، وكنت أقف معهما، التفت جيران إليّ قائلا لعلوية: هذه ابنتي منى، فراحت تحتضنني وتقول لخالتي فاطمة: تشبهك كتير! فتبادلنا خالتي فاطمة وأنا ابتسامة وحدنا نعرف معناها، في حين لم نتوقع أن يفاجئنا أحد بتعليق من ذاك النوع، وبقيت هذه المفارقة تثير دهشتي كلما تذكرتُ علوية صبح.
وفي أبريل من عام 2019م، سافر جيران من مارتيل إلى الرباط من أجل أن يحضر ندوة "من مطلع الشمس: قراءات نقدية مغربية في الشعر العماني" التي نظمتها مؤسسة بيت الزبير العمانية في المكتبة الوطنية في الرباط، وجمعتْ خمسة من النقاد المغاربة، وهم أحمد الطريسي، وحميد لحمداني، ومحمد مشبال، وإدريس الخضراوي، وعز الدين الشنتوف. وحضر كذلك الأمسية الشعرية المصاحبة التي جمعت شعراء عمانيين ومغاربة، ثم آلى على نفسه أن يرتب جدولا سياحيا للوفد العماني المكوّن من سماء عيسى، وخالد المعمري، وإسحاق الخنجري، وأسماء القطيبي، وأنا. كان الشعور ونحن برفقته أننا نحلّ ضيوفا عليه هو شخصيا. لازَمَنا طالما بقينا في الرباط، ولم يغادرنا إلى مارتيل حتى اطمأن إلى أن ضيوفه يتصرفون في الرباط كما لو أنهم في مسقط، مع فرق الطقس والتوقيت!
وفي عام 2021م جمعنا مجددا الصحفي المصري خالد حمّاد، جيران وأنا، في حوار مزدوج ضمن سلسلته الصحفية "حوار بين جيلين"، فكان عليّ – حسب خطّة حمّاد - أن أحاور عبدالرحيم جيران، وجيران يحاورني. وقد نشرتْ صحيفة الدستور الحوارين معا في ثلاث حلقات في يونيو من عام 2021م.
في زيارتي الأخيرة للمغرب برفقة الصديقين هدى حمد وهلال البادي في يونيو 2023م، حرصنا على أن نلتقي بجيران وخالتي فاطمة، فلا يمكن لزيارة إلى المغرب أن تنقضي بدون رؤيتهما، فكان لقاؤنا بهما في طنجة، حيث نزلا لبعض الوقت حسبما جرت عادتهما بين حين وآخر ولاسيما في الصيف. وأسعدني أنه بدا بصحة جيدة، وقد أخذت عيناه في التحسّن بشكل كبير ولله الحمد، متّخذا من الكتب الصوتية وسيلة تُعينه على القراءة ريثما يتماثل للشفاء التام بحول الله.
ومنذ ذلك الوقت لم أزر المغرب مجددا، ولكن عبدالرحيم جيران سيبقى دائما واحدا من أجمل وجوهها وأحبها إلى قلبي، وسأعرف دائما أن القدر عوضّني أبًا فقدتُه مبكرا، فكان جيران لي السند والمعلم والأب بحلمه وصبره وصرامته المحببة.
وكما يغلق المصور عدسته على لقطة مميزة، أغلقها حتى حين على صورة يظهر فيها عبدالرحيم جيران جالسا بين الكاتبين العمانيين الخطاب المزروعي وحمود الشكيلي في الساحة الخارجية لمعرض مسقط الدولي للكتاب، مساء 25 فبراير 2018م، بينما يرتدي جيران على رأسه مصرًّا عمانيًّا، ويضع الخطاب المزروعي على رأسه قبعة بيريه مغربية، فيما التعليق أسفل الصورة في الفيسبوك يقول: "صورة تجمع العماني عبدالرحيم جيران والمغربيين حمود الشكيلي والخطاب المزروعي". وفي لقطة أخرى يقف عبدالرحيم جيران في جناح دار الانتشار العربي مشاركا في حفل توقيع كتاب "أأنا الوحيد الذي أكل التفاحة؟" لمؤلفَيه سليمان المعمري وهدى حمد، ويقف عن يمينه الشاعر محمد الحارثي، وعن يساره منى ثم هدى فسليمان. كان ذلك قبل ثلاثة أشهر فقط من رحيل محمد الحارثي في 27 مايو 2018م. وعندما رحتُ أفتّش عن الصورة الوحيدة التي تجمعني بالحارثي، وجدت أبي عبد الرحيم جيران آصرة تجمعني بمحمد الحارثي في ذكرى ظهوره الأخير ذاك، في معرض مسقط الدولي للكتاب في فبراير 2018م، من دون أن ندري أنها لقطته الأخيرة.
لا تنقطع الرغبة في الكتابة عن عبدالرحيم جيران، ولا ينفد مخزون الامتنان الذي أحسبني لست الوحيدة التي تحمله لهذا الرجل، ولكن آمنتُ بأن الكتابة عمّن نحب، هي وحدها الطريقة الأجدى لنبعث تحية تعبر المسافات، وتقول كلَّ ما عجزنا عن فعله أو قوله بينما كنا معهم.
