ثقافة

رحلة بين دفتين :«امرأة» لآني إرنو

27 مارس 2023
27 مارس 2023

«توفيت والدتي يوم الاثنين، في السابع من أبريل، بدار العجزة بمدينة بونتواز حيث وضعتها منذ سنتين» هكذا تبدأ آني إرنو، كتابها المعنون بـ «امرأة» والذي يقع في 78 صفحة، الكتاب الذي وقع في يدي بترجمة سحر ستّالة ومراجعة محمد جليد. وقد تكررت هذه العبارة أكثر من مرة في الكتاب، فموت الأم هو ما حرَّك في الكاتبة رغبة الكتابة عن أمها، الموت الذي جعلها تشعر بفراغ ما بعد الفقد، رغم أن أمها كانت موجودة في دار العجزة منذ سنتين، لكن مجرد فكرة أنها فقدتها إلى الأبد كان وقعها كبيرًا جدًا على الكاتبة، ومؤلمًا. كانت صدمة ووجعًا لم تستطع التخلص منهما إلا بالكتابة. تصف الكاتبة شعورها وهي تكتب عن أمها، «إنها جملة صار باستطاعتي احتمال وقعها دون شعور بانفعال مغاير عن ذاك الذي كان سيغمرني لو كتب هذه الجملة شخص آخر»، وكما جاء في الغلاف الأخير من الكتاب وبقلم الكاتبة نفسها بأن الكتاب ليس سيرة ولا رواية، بل هو شيء يقع بين الأدب وعلم الاجتماع والتاريخ.

آني إرنو، كاتبة فرنسية ومعلمة أدب فرنسي، حصلت على جائزة رينودو الأدبية في عام 1984م عن عمل لها في السيرة الذاتية «المكان» وهو سرد لسيرتها الذاتية، تحكي فيه علاقتها مع والدها، وانتقالها إلى مرحلة البلوغ وبعيدًا عن موطنها الأصلي، وحازت على جائزة نوبل للأدب عام 2022، وعللت «لجنة نوبل» أن مؤلفات الكاتبة تتمتع بأسلوب سهل ممتنع، واقعي وخال من أي مبالغات إنشائية.

كتاب «امرأة» من الممكن قراءته في جلسة واحدة برفقة كوب شاي أو قهوة أو حتى ما قبل النوم، رغم الحزن الذي سيشعر به القارئ في بداية الكتاب، والذي يبدأ بالتلاشي تدريجيا مع صفحات الكتاب، فالكاتبة استحضرت حياة والدتها أكثر من تركيزها على حالة الحزن التي تعيشها بسبب موتها، وكأنها تدفع بالكتابة ألم الفقد. قرأت هذا الكتاب في فترة حسّاسة لذلك ربما أثّر فيَّ أكثر من أي كتاب قرأته في وقت آخر، قرأته وأنا برفقة أمي في المستشفى، لذلك كانت كل كلمة في الكتاب تعني الشيء الكثير لي، فقد عايشت ذلك القلق المرّ الذي وصفته الكاتبة وهي ترى أمها تعود وكأنها طفلة صغيرة، كل كلمة كانت تعنيني وتوجعني وأنا أرى أمي أيضًا تعود طفلة صغيرة أمام عيني، كل سطر في الكتاب كان يعنيني ويعني كل إنسان على هذه الأرض يشعر بقيمة أمه وهي على قيد الحياة، ولا يتخيل فقدها.

غرقت في تلك التفاصيل التي كانت تتحدث عنها الكاتبة عن أمها، رغم أنها من الممكن أن تكون تفاصيل عادية لامرأة عادية جدًا، ربما لن يكون لها ذكر أبدًا لولا أن كتبت عنها ابنتها، وخلّدتها بهذه السيرة أو بهذا السرد الرائع، بلغة مؤثّرة، بسيطة في غير تعقيد، اللغة التي كتبت بها آني إرنو كل كتبها، والتي كانت أغلبها تتخذ الطابع الذاتي، لكنه كتاب لا يبعث على الحزن، بقدر ما يكشف عن تلك العلاقة الجميلة بين أم وابنتها، الكتابة عن امرأة ربما لم يكن في حياتها ما يستحق الكتابة عنه، سوى أنها أم آني إرنو، كتابة تكشف عن الفراغ الذي من الممكن أن يتركه موت الأم في حياة الابنة على وجه الخصوص. تقول الكاتبة في الصفحة 14 «تجاوزت الذعر الذي ينتابني من الكتابة أعلى ورقة بيضاء، كأني أخط أولى الكلمات في كتاب، وليس رسالة إلى أحدهم تبدأ بـ «والدتي توفيت» كما تمكّنت من تأمل صورٍ لها»، من هنا بدأت الكاتبة سرد حياة والدتها بعد أن ابتدأت بوصف مشهد الموت وتفاصيل الجنازة والدفن في سرد مؤثر وجميل.

غالبًا لا يبدأ الكاتب الكتابة مباشرة فيما يتعلق بأمر يخصه وذلك ما ذكرته الكاتبة أنها لم تسجل شيئًا بعد موت والدها وانفصالها عن زوجها، إلا بعد فترة ومسافة سمحتا لها بتحليل الذكريات، لكنها بعد موت والدتها «الآن عاجزة عن فعل أي شيء آخر»، وهذا دأب أو طبيعة الكاتب، حينما يشعر بالعجز أمام أحداث الحياة وظروفها تصبح الكتابة هي المنقذ.

من الصفحة الأولى حتى الصفحة الثالثة عشرة، كتبتْ الكاتبة عن موت والدتها، من لحظة تلقيها الخبر عبر الهاتف من ممرض يعمل بدار العجزة التي كانت الأم موجودة فيها، ووصفت أمها وهي على سرير الموت في تلك الغرفة بدار العجزة، وكيف قامت هي بإنهاء إجراءات في إدارة شؤون الجنائز واختيار التابوت المصنوع من خشب البلوط الذي شجرته هي الشجرة المفضلة لوالدتها. كقارئة شعرت بالحنق أن تموت أم في دار العجزة وقد كان ذلك خيطًا سحريًّا دفعني لمواصلة القراءة والسير في صفحات الكتاب سيرًا حثيثًا لاكتشاف لماذا أودعت الكاتبة أمها دار العجزة، ولماذا عجزت هي عن رعايتها في آخر سنوات حياتها، وكيف بدت مهتمة بالكتابة عن أمها؟

في هذه الصفحات تدرّجت الكاتبة في الحديث عن والدتها منذ طفولتها ونشأتها في بيت ريفي فقير، تقول «إن شهيتها كانت مفتوحة على الإطلاق، ارتادت المدرسة القروية، ولكنها غادرت المدرسة في سن الثانية عشرة والنصف، والتحقت بالعمل في مصنع، وكانت من بين جميع عائلتها أشدهم عنفًا وكبرياء وذكاء، كانت امرأة جميلة شقراء ذات بنية قوية وعينين رماديتين، تهوى القراءة وسماع الأغاني، ولا أرى إلا امرأة ناعمة شبيهة بشخصية سينمائية في فترة العشرينيات».

«يبدو لي أننا وأبي كنا عاشقين لأمي»،

«كانت تملك فساتين ألوانها منعشة وبذلة سوداء ذات حبيبات ناعمة، تقرأ مجلتي الأسرار وموضة اليوم. حتى إن الأم تصف نفسها وهي تحدّث ابنتها «كنت مرغوبة من قبل الرجال، وقد طُلبت للزواج عدة مرّات لكنني اخترت أباك»، هذا الوصف يكشف جانبا من شخصية الأم التي كانت قوية وجميلة في الوقت نفسه.

لقد أتت الكتابة في هذا الكتاب متسلسلة وجميلة، مليئة بالتفاصيل، لكنها غير مملة، كتابة تلامس الحقيقة التي ندركها جميعنا في علاقتنا بأمهاتنا، هي الكتابة التي لجأت إليها الكاتبة للتخلص من الوحدة والفراغ بعد فقدها لأمها، لذلك «اختارت أن تحتفظ بصورة عاطفية خالصة دون أن تضفي عليها معنى ما».

هذا العمل هو تجربة إنسانية، لما فيه من عاطفة صادقة واقعية، ولما له من الخصوصية في علاقة الكاتبة بوالدتها، تلك العلاقة التي لم تحاول الكاتبة تزيينها أو تزيفيها أو الإضافة لها أو الإنقاص منها، لقد أتت كما كانت وكما هي، لم تشتغل الكاتبة بالخيال بل بالواقعية وذلك ما أضفى على هذا السرد الواقعي جمالًا وتأثيرًا مباشرًا على القارئ، وهذه العلاقة بين الكاتبة وأمها هي علاقتنا جميعًا بأمهاتنا، لذلك كان هذا العمل قريبا من النفس لأنه ربما كُتب بلغة صادقة، تلك اللغة التي تأتي مباشرة من القلب وتصل إلى القلب، لقد كانت أمها أمًّا جيّدة وسيئة وجميلة ومتمرّدة، كانت امرأة متّزنة وغريبة الأطوار، لكن الابنة أحبت أمها، طوال عمرها أحبتها ومع ذلك لم تفكر في الكتابة عنها في حياتها، بل كتبت عنها بعد الموت «هذا الشعور الذي يجعل حضور والدتي الوهمي أقوى من غيابها الفعلي هو دون شك أول شكل من أشكال النسيان»، هذه العبارة التي وردت في الصفحة الأخيرة من الكتاب تخبرنا أنه كيف بالكتابة استطاعت آني إرنو أن تخفف عن نفسها ثقل الشعور بالفقد، وأن تؤثث زوايا الفراغ في حياتها بعد موت أمها. «لن أسمع صوتها مجددا، إنها هي، كلماتها ويداها وحركاتها وأسلوبها في الضحك، من كانت توحد المرأة التي أنا عليها اليوم بالطفلة التي كنتها في السابق، وبموتها فقدت آخر رابط بيني وبين العالم الذي جئت منه».