No Image
ثقافة

حين يصير الخوف طائر البلاد الوحيد

14 ديسمبر 2023
أجنحة الخوف لنجوى غانم
14 ديسمبر 2023

يلاحظ عدد من نقاد فلسطين قلة عدد القاصات في فلسطين وغزة تحديدا، يقول الناقد المعروف محمد البوجي في تفسير هذه الظاهرة: (ربما انشغال الأم الغزية بواقع الحياة المأساوي بعد النكبة الذي انشغلت به كثيرا، وقامت بتأجيل حياتها إلى ما بعد التحرير، وربما يكون السبب أيضا هو أن طباعة أو نشر قصة قصيرة كان يتطلب علاقات وتواصل وهذا صعب على المرأة الفلسطينية آنذاك، أما بعد أوسلو فالأمر اختلف، سيدات كثيرات مثقفات عدن إلى غزة ولوحظت هناك حرية معينة خصوصا مع وجود مطابع كانت ممنوعة أيام الاحتلال ودوائر إعلامية ومحطات إذاعة وتلفزة، وهذا ما أدى إلى ظهور كاتبات صحفيات ومعدات برامج وناشطات ومذيعات وهنا بدأت تظهر ملامح وجود كاتبات وشاعرات). هذه مجموعة قصصية لافتة للكاتبة الغزية نجوى غانم، صادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، أحاول أن أقرأ هذه المجموعة بعيدًا عما يحدث الآن في غزة حيث يباد الإنسان والشجر والحجر، لكني أفشل في ذلك تماما، لا شيء ينفصل عن بعضه في غزة الحصار والاحتلال والفقر والخيبات الشخصية، والموت الشخصي والرغبة في الانعتاق، من كل ما يقتل الروح، يكتب الغزي حكايته مكتملة وشجاعة دون اضطراب او تلفيق، ودون المشي في طرقات وأذواق ولغة الآخرين، ودون رغبة سطحية في إبهار الآخرين، لا يستطيع الكاتب هناك الكذب على ذاته، وصحيح أن هناك قصة حزن كبرى مشتركة لكل الغزيين وهي الحصار الصهيوني المستمر، ويتوج الآن بتدمير غزة، لكن غزة عبارة أيضا عن قصص حزن وبطولات تتبع سياقات شخصية، هذا ما تعودنا عليه كقراء ومعجبين ومتابعين لأدب غزة، ونحن نبحث في نصوصها عن الجديد الصادق الساخن الحقيقي، والمفارق أسلوبيا مع كتابات الهم المعتاد( الذي من الضروري طبعا كتابته ومقاربته بأساليب جمالية متعددة،) بحثا عن أثر التجارب الشخصية في الحياة والتي بالطبع لا يمكن فصلها عن الهم الوطني العام.

في مجموعة (أجنحة الخوف)، نقرأ قصصا تتجاوز بنيتها السردية لتدخل تخوم الشعر، 73 قصة قصيرة، بالإمكان اعتبار عديد من الأقاصيص هنا قصائد شعرية نثرية، ففي الأقصوصة التي ُعنونت بها المجموعة، أجنحة الخوف، نقرأ شعرا متنكرا في هيئة سرد، لنقرأ السطور الأولى من الأقصوصة: (خلفها باضطراب وقفتُ ذات شتاء، نافذتي الضيقة، تتقاطع حوافها بقضبان صدئة، وقفت بعناد، بيني وبين وجه السماء الكامل، فلم أره، لكنني سمعت هديرا مخيفا، وخلف القضبان، مرت طيور فزعة، جابت الفضاء الضيق، حلّقت بعشوائية، حاولت اجتياز السماء، فردها فتيل الغيم المشتعل).

معظم القصص تتشارك في طرح قضايا النساء الفلسطينيات، المرأة التي تخرج سرا، في نص (تخرج سرا)، هي ابنة السابعة عشرة سنة التي تم وقف تعليمها، مات أبوها فورثها أشقاؤها تعمل في مطعم إخوتها، دون مستقبل، دون رغبة منها، دون إجازات، وفي نص (هو وهي) تلتزم البطلة الصمت ولا تستطيع ترجمة غضبها للصراخ في وجهه، أو تخبره أنه من المفترض أن تكون أكثر أهمية من صديقه وأن مشاعرها أثمن من أن يساوم عليها، وفي نص (أحد عشر قلبا) لم يعد التهديد بالزواج من أخرى هو ما تخشاه من زوجها، بل الطلاق إن كان ما تحمله في أحشائها أنثى سابعة، تريد أن تنجب ذكرا يحميها من الضياع وألسنة النسوة التي لا ترحم.

حول النسوية المفرطة في نصوص المجموعة تجيب الكاتبة نجوى غانم: الكتاب نسوي لأنني أخذت على نفسي عهدا قديما أن أكون صوت النساء المقهورات المعنفات، أروي قصصهن، وأكون نبضهن، ونحن بحاجة للأدب النسوي لكي نوثق المعاناة، النسوية، النفسية والاجتماعية والوطنية للمرأة العربية عامة، الفلسطينية، خاصة وتوثيق المعاناة أول خطوة، في طريق رفعها والمطالبة بتغيير واقع المرأة.

وماذا عن كتابة الأدب النسوي في ظل أزمات وطنية عامة وهم قومي، نسأل الكاتبة فتجيب: أن نكتب الأدب النسوي في ظل الهم العام والحصار، والاحتلال هو المهمة الأعمق؛ لأن المرأة هي مركز الأحداث، وهي المتأثر المباشر لها، فهي التي تفقد الأولاد والزوج، والبيت، وهي التي تواجه وحدها العنف، دون قانون أسري أو مجتمعي أو دولي، يحميها، أفلا يكون لها صوت عال يقول ما تقوله دموعها، على الوسائد وخلف القدور؟ وقد اخترت المرأة لتكون بطلتي دائمة لي، وأكون صوتها لأمرر المعاناة الشخصية التي أفرزتها الأسرة والمجتمع أو الوطنية التي تسبب بها الاحتلال.

أجنحة الخوف عمل قصصي فلسطيني مفرط في نسويته لكنه مكتوب بلغة ساحرة وراقية، معجونة بوجع الحياة، ولعل أهم ملاحظة لاحظتها في كتابة الفلسطينيات بشكل عام في غزة هو جرأة الطرح وصدقه، ومسحة التفلسف الخفيفة التي لا تؤذي بنية السرد ولا تحرفها عن نظامها، أما عن غياب البعد الوجودي والأسئلة الكبرى في معظم كتابات غزة فأجاب عنه مرة الكاتب باسم النبريص بما معناه: غزة تقاتل بالكتابة حتى تعيش حياة أفضل.