No Image
ثقافة

حدث ذات يوم

26 مارس 2024
26 مارس 2024

كثيرة هي المحطات التي تستحق الوقوف عندها في مسيرة كل إنسان عموما، والأكثر هي المحطات التي توقفتْ بها مسيرتي الحياتية الصاخبة بالأحداث الكثيرة الملونة، لكنني توقفت عند هذه المحطة بالذات نظرا لقربها من الذاكرة زمنيا ونظرا لكونها ما زالت حية في أذهان كثير من الناس عبر نقلها تلفزيونيا. وتناقلها في الأحاديث المجتمعية.

الحدث هو ندوة المرأة العمانية التي أقيمت بأوامر سامية للمغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه في رحاب المخيم السلطاني بسيح المكارم في ولاية صحار خلال الفترة من 17 إلى 19 أكتوبر 2009م، كانت أوراق الندوة كلها تدور حول أهمية مشاركة المرأة العمانية في مجلس الشورى، وأثارت ورقتي المعنونة بـ «مشاركة المرأة العمانية في مجلس الشورى» الكثير من التساؤلات والتعليقات، لعل أبرزها قول رجل من الحضور معلقا: نحن لا نريد المرأة العمانية أن تشارك في مجلس الشورى والمقصود بنحن -جملة الرجال العمانيين بالطبع- ثم أكمل: فالمرأة أكرم من أن تزاحم الرجال في عمل خاص بهم، وفي موروثنا العماني نحافظ على المرأة لتكون مصانة مكرمة، فهي كالدرة المصونة والجوهرة المكنونة ومكانها هو البيت.

تعليق منطقي طبعا أفسده جوابي له الذي نزل عليه كالصاعقة وكان ملخص الجواب.. «يا أخي الكريم أنا لا أريد أن أكون درة مصونة وجوهرة مكنونة لأنني أغلى وأكرم بكثير من هذه الجواهر، فأنا إنسانة وسبحانه وتعالي كرَّم الإنسان عندما قال: «ولقد كرَّمنا بنى آدم»، وأنا يا أخي الكريم إنسانه مثلي مثلك لي ما لك من حقوق، وعليَّ ما عليك من واجبات».

بعد انتهاء أوراق الندوة تشرفنا نحن النساء المشاركات في هذه الندوة بالسلام على جلالة السلطان قابوس بن سعيد في خيمة استقبال الضيوف، حيث تشرفنا بالسلام عليه والجلوس معه وبدأ بالنقاش معنا قائلا من منكن التي ردتْ على الرجل الذي شبهكن بالدرر والجواهر؟ فكانت الردود تشير إليَّ إنها الدكتورة سعيدة خاطر، وبعد أن طلب جلالته مني أن أعيد جوابي على الرجل أمامه أضاف باللهجة العمانية اللطيفة وهو يضحك: «تو هذا مو وقعه في هذه الورطة، يحسب نفسه يقدر يضحك عليكن بهذه الكلمات درة مصونة وجوهرة مكنونة، مسكين.. هذا ما يعرف العقول التي يتناقش معها!!!»، والحقيقة أن جلالته اشتد عليه الضحك، لدرجة أنه بعد انتهاء الندوة كثير من الناس سألني ماذا فعلتن بالسلطان؟ أول مرة نراه يضحك هكذا.. وقال أحد الوزراء بصراحة لم يسبق لنا أن رأيناه يضحك بهذا الشكل، على كثرة لقاءاتنا معه، وأضاف مع أنني شخصيا حاولت كذا مرة أن أجعله يضحك لكن مجاملة منه كان يبتسم مجرد ابتسامة خفيفة، فماذا حصل معكن؟!

قلت: لقد كان فرحا بنا متباسطا معنا وعاملنا بحنان وعطف أبوي كما يعامل الأب بناته.

والحقيقة أن السلطان كان يعرف كل ما دار في الندوة، وكان يعرف ما قاله الرجل، ومن التي ردت عليه، وكيف ردتْ؟ لكن تساؤلاته كانت نوعا من إزالة الرهبة والخجل منا وطريقة لطيفة لافتتاح الحديث، والجميل أن الأمر مرَّ دون أن نكشف اسم الرجل أو أين يعمل؟ فقد كان أمرا سيئا أن يعرف جلالته أن الرجل كان يعمل إداريا في جامعة السلطان قابوس، ثم استقال ليترشح للشورى وبالفعل فاز وصار عضوا بمجلس الشورى، وما أصعب الوقع على جلالته لو عرف أن الرجل الذي نضحك على موقفة كان واحدا من رجال الدولة في مجلس الشورى، الحقيقة كانت هذه المشاركة حدثا مميزا لي وللمرأة العمانية، وحصدت المرأة بشكل عام بعد هذه الندوة الكثير من المكرمات السلطانية والمنافع للمطلقات والأرامل والبعثات الطلابية للبنات وتكافؤ الفرص تعليميا وعملا.

وتحمل لي الذكرى عبق نساء بارزات مثل الدكتورة شريفة بنت خلفان اليحيائية وزيرة التنمية الاجتماعية آنذاك التي كانت متحمسة جدا لما سيعود على المرأة العمانية من مكاسب إثر التوصيات التي ستخرج من الندوة لصالح النساء عموما، والدكتورة شريفة -والحق يقال- امرأة واعية مثقفة لها بصمتها المميزة، وحضورها الباذخ، وتحضرني ذكرى الدكتورة منى الجردانية وكيلة وزارة التربية والتعليم حينها التي أشرفت إشرافا مدهشا وحازما على دقة محتوى أوراق الندوة ومراجعتها علميا مراجعة محكمة، تليق بالمقام السامي الذي سترفع إليه.

وتحضرني ذكرى يفوح أريج إنسانيتها لدى كل من يتذكرها إلى الآن، إنها شمعة وزارة التنمية التي كانت مديرة دائرة المرأة والطفل والمسؤولة عن الندوة ككل حتى أنهتها على أجمل وأكمل ما يجب أن تكون عليه، وذهبتْ شهيدة العمل المتقن والواجب، وانطفأت شمعتها للأبد، مع كونها شابة في مقتبل العمر الجميل، لكن ظل نورها مشعشعا في قلوب المحبين للأبد، إنها يسرى بنت خميس الفارسية محبة العطاء والعمل بلا حدود، ولا أستطيع أن انهي ذكرى ذلك اليوم دون التوقف في محراب الصداقة حيث تقف سيرين بنت علي القاضي علامة فارقة شاركتني في أعمال تطوعية عديدة كقائدة مؤسسة في جمعية المرشدات العمانية وكعضوة فاعلة في جمعية المرأة العمانية، وسافرنا سويا لنمثل الوطن في عدة مؤتمرات وندوات، ومؤخرا اشتركنا في هذه الندوة التي تم تكريمنا فيها سويا.. لكن سيرين الجميلة روحا وشكلا وعقلا اختارت عزلتها البيضاء، بعد مسيرة خضراء مغدقة بالخير والعطاء والجمال.

رحم الله السلطان الفقيد قابوس بن سعيد وأفاء عليه عن منجزاته العظيمة خير الثواب وعظيم الأجر والرحمات المتوالية من دعاء قلوب محبيه الصادقة، وبركات هذا الشهر الفضيل المزهرة.