No Image
ثقافة

بين أحمد أمين وطه حسين بقلم شاهد عيان!

20 أبريل 2024
20 أبريل 2024

(1)

من بين أهم ما يستوقف قارئ كتاب «في بيت أحمد أمين» لنجله حسين أحمد أمين، هو تلك القدرة الاستقصائية المدهشة على نقل تفاصيل دقيقة من مشاهد الحياة اليومية في هذا البيت العريق الذي كان يضج بالحياة والأدب والفكر والثقافة، وشهد لقاءات وتجمعات أعظم العقول المصرية والعربية في النصف الأول من القرن العشرين.

حسين أحمد أمين هو الابن قبل الأخير في سلسلة الأبناء والبنات الذين أنجبهم أحمد أمين، تلاه مباشرة "جلال أمين" أخوه الأصغر وصاحب النصيب الوافر من الشهرة العارمة في مصر والعالم العربي خلال العقدين الأخيرين قبل رحيله في 2018.

كان الأخوان "حسين أمين" و"جلال أمين" هما الثمرة الناضجة لنشأتهما في بيت أدب وعلم وثقافة وفكر، بيت أحمد أمين أحد أعمدة الثقافة المصرية والعربية ومؤرخ الحياة الفكرية والعقلية للمسلمين منذ فجر الإسلام وضحاه وظهره حتى استواء يومه.

درس الأول العلوم السياسية والتحق بالسلك الدبلوماسي، ومثل مصر سفيرًا في العديد من الدول حتى أحيل إلى التقاعد ليتفرغ للكتابة تماما. أما الثاني فقد درس الاقتصاد ونال إجازاته العالية، فيها وأصبح من الخبراء المعدودين في عالمنا العربي في هذا العلم الحيوي شديد الاتصال بالسياسة وشؤون الحكم والمجتمع وأحوال الناس، ولهذا فلم يكن غريبا أن يحظى جلال بوفرة كبيرة جدا في الانتشار والمتابعة سواء من خلال مقالاته الدورية التي كان ينشرها في كبريات الصحف المصرية والعربية، أو من خلال كتبه التي أصدرها منذ ثمانينيات القرن الماضي في الهلال، ثم في العقود الأخيرة من حياته في دار الشروق، وكان جلال أمين من أكبر كتابها وأبرز مثقفيها.

(2)

نال حسين أحمد أمين شهرة كبيرة أيضًا بسبب كتاباته في الصحف والمجلات وترجماته وكتبه المهمة، وخاصة كتابه موضوع حديثنا هذا «في بيت أحمد أمين» الذي حاز شهرة واسعة وقبولًا في أوساط القراء ولفت الانتباه إلى تفاصيل دقيقة ومشاهد حيوية في تاريخ هذه الأسرة الشهيرة في الثقافة العربية، فقد مثل حسين أحمد أمين شاهد عيان ثقة على وقائع وأحداث وشخصيات في حياة أبيه، خاصة في سنواته الأخيرة، كما نقل لنا بأمانة وصدق دخائل وأسرار بعض العلاقات الملتبسة بينه وبين مشاهير عصره، وخاصة صنوه وصديقه طه حسين عميد الأدب العربي.

من بين فصول الكتاب، وأوراقه المزدحمة بالمشاهد والذكريات والتفاصيل الماتعة، لا أنسى أبدًا المشهد الذي كان يصف فيه لقاء طه حسين وهو يزور المرحوم أحمد أمين في المستشفى قبل وفاته مباشرة.. كان أحمد أمين فقد بصره تقريبًا ولم يعد يرى، فمد يده متلهفًا للسلام على صديق العمر، وفعل طه حسين الأمر نفسه وهو يمد يده بحثا عن يد صديقه، وقام حسين أحمد أمين الابن بعقد كفي الصديقين ليلتقيا ويسلما على بعضهما بعضا، ويبث كل منهما سؤاله ومحبته وافتقاده لصديقه.. والله إنها لحظة بالعمر كله.

أبكاني هذا المشهد الرائع من إنسانيته ورقته ولحظة تعبيره عن معنى الصداقة الحقيقية والعشرة والعمر مهما كان فيها ومهما شابها أو أصابها من قذى أو منغصات..

كان الجميل في الكبيرين هو معرفة كل منهما بالآخر وقدره وقيمته.. ومهما بدا في مسار تلك العلاقة من مكدرات ومشاحنات أو منافرات الأصدقاء المعتادة فإنها لا تطغى أبدا على رسوخ نشأتها وأساسها المتين المكين، وقد أعادني هذا المشهد الإنساني النبيل إلى جذور تلك العلاقة التي أتصور أنها من بين أهم أشكال الصداقة في الأدب العربي الحديث كله.

(3)

لهذا المشهد الإنساني المثير للمشاعر جذور في سيرة الرجلين الكبيرين، وإن كان أحمد أمين قد فصل فيها في القول بحماسة غاضبة في سيرته الذاتية الرائعة «حياتي»، وهي واحدة من أهم وأقيم السير الذاتية في ثقافتنا العربية الحديثة، وإن كانت شأنها شأن أغلب السير الذاتية في الأدب العربي يمكن وصفها بالمتحفظة، حيث التعفف عن ذكر مواطن الضعف، أو إمكان التوتر في قضية التفكير في الدين، أو حتى العلاقة بالمرأة، فلا شيء في ما كتبه أحمد أمين عن الجوانب الإنسانية المتصارعة، أو نزوات الشباب ونزقه.

لكن العجيب فعلًا أن المرحوم أحمد أمين لم تغلبه عواطفه وتنتصر على صرامة تعقله إلا عندما تحدث عن علاقته المأزومة بطه حسين التي انتهت إلى ما يشبه "قطيعة كاملة"، كان لا بد من أن تنتهي إليها بحكم التضاد بين صفات الشخصيتين، فقد كان طه حسين ناريًّا ساعة الغضب، عنيدًا لا يتنازل عن رأيه بسهولة، ديكتاتوريًا في علاقته بالآخرين، متسلطًا على من يحبه، جذريًا في تفكيره الذي لا يقبل أنصاف الحلول، أو حتى المرونة، وكان أحمد أمين على النقيض من ذلك كله، هادئًا، مرنًا، متسامحًا، ميَّالًا إلى التصالح مع نفسه والآخرين، سهل المعشر مع إباء في النفس، وترفع عن الصغائر وعزوف عن الإيذاء، ويقول ابنه جلال في تقديمه للكتاب مستنتجا من هذه الصفات التي اتسم بها أبوه أحمد أمين:

"كانت إحدى النتائج الباهرة لهذا الاستعداد القوي لدى أبي، إنتاجه لتلك السلسلة الرائعة من الدراسات فيما سماه: تاريخ الحياة العقلية في الإسلام، والتي بدأت بكتاب «فجر الإسلام»، ثم «ضحى الإسلام» (في ثلاثة أجزاء)، ثم أربعة أجزاء من «ظهر الإسلام».

إني إذ أقرأ اليوم في أول كتب هذه السلسلة (فجر الإسلام) الذي كتبه في منتصف العشرينيات من القرن الماضي؛ أي منذ ما يقرب من مائة عام، يعتريني انبهار شديد بهذا الميل الدائم لديه لردِّ كل شيء إلى أسبابه، وإلى تعليق أهمية كبيرة على أثر اختلاف الظروف الاجتماعية والطبيعية في اختلاف العادات وأنماط السلوك والأفكار.

إنه على استعداد دائم لرد اختلاف التفسيرات إلى اختلاف الظروف. لا عجب إذن من تأكيده المستمر على ضرورة "الاجتهاد"، وابتداع حلول جديدة للظروف الجديدة، ونفوره من إخضاع العقل لحرفية النصوص، بدلا من تفسير النصوص بما يقضي به العقل".

(4)

وأتصور أن طبيعة أحمد أمين الهادئة المثابرة أتاحت له من الصبر ما أكمل به ما بدأه مع صديقيه طه حسين وعبد الحميد العبادي من مشروع التأريخ للحضارة العربية في جوانبها المختلفة، السياسية والفكرية والإبداعية.

وقد اتفق الثلاثة على أن يتولى طه حسين التأريخ للحياة الأدبية، في مسيرة الحضارة العربية، و"العبادي" الحياة السياسية، و"أحمد أمين" الحياة الفكرية، ولم يكمل طه حسين وعبد الحميد العبادي ما وعدا به، ومضى أحمد أمين وحده، حاملا عبء إنجاز ما حلم به الثلاثة، فأنجز كتابه العلامة في تاريخ الثقافة العربية. أعني ثلاثيته الرائعة التي بدأت بكتاب (فجر الإسلام) في جزء واحد، وانتقلت إلى (ضحى الإسلام) بأجزائه الثلاثة، ثم (ظهر الإسلام) بأجزائه الأربعة،

وما كان يمكن إنجاز هذا الكتاب "الموسوعة" إلا بصبر طويل، وتفرغ كامل لسنوات، وحياة هادئة منظمة، حياة "لا تعرف الانفلاتات الديونسية، ولا تقلبات التمرّد الحديّة، بل تعرف الوضوح الأبوللوني الشمسي بنظامه الساطع، وتحدده القاطع، وتتابعه الذي لا يعرف الملل، كما تعرف العقل الذي يحب النظام حبّا شديدا، حيث كل شيء في موضعه وكل شيء في وقته"، كما يرصد بدقة جابر عصفور.

وكان لا بد من أن يقع الصدام عندما تولى أحمد أمين عمادة كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) ورفض أحمد أمين وصاية طه حسين، ولم يقبل طه حسين من صديقه الحكيم أن يرفض له طلبًا، وأن يختلف معه في الرأي، فوقعت القطيعة، وتألم أحمد أمين كل الألم لعنف هجوم صديقه الحميم عليه، ووقع الخصام الطويل الذي كتب عنه صفحات بالغة الصدق والأسى في «حياتي»، لكن من دون أن يذكر اسم طه حسين أو يشير إليه حتى بالأحرف الأولى..

(5)

ويأتي حسين أحمد أمين ليضع مشهد النهاية المشار إليه قبل قليل ليختتم هذا الفصل في حياة الرجلين المهمين الكبيرين. وبالتأكيد كنا سنخسر كثيرا هذه الصورة القلمية المدهشة، وهذا الكنز الإنساني "القيم" إذا لم يوثقه ويسجله وينقله إلينا بأمانة وبراعة حسين أحمد أمين رحمه الله.

ختامًا، فقد كان هذا الكتاب أحد أسباب شغفي بأحمد أمين، وأسرته، وسيرته العصامية المشرفة (وقد قرأته قبل أن أقرأ «حياتي» التي لم تنل أبدًا ما تستحقه من اهتمام وقراءة ومناقشة..