No Image
ثقافة

الهجرة واللجوء... وخيال كنط

23 أبريل 2024
23 أبريل 2024

يتعالى اليوم، وبخاصة في الدول الغربية، ضجيج صراع تتواجه فيه أيديولوجيتان، أو فكرتان كبيرتان، الأولى، يسارية بشكل معين، والثانية يمينية، أيضا بشكل معين. صراع يطغى على صرخات المهاجرين ومعاناتهم، كما لو أنه يصمّ آذان الجميع بشكل كبير؛ ربما كانوا يفضلون ذلك، أي عدم الاستماع في الأصل، لأنها في الواقع صرخات «لا تُحتمل».

يتباهى، من هم إلى اليسار، بمناهضة العنصرية تجاه الأجانب والغرباء ويعلنون عن «حساسيتهم» تجاه أي شكل من أشكال الحدود الغربية. بينما من هم إلى اليمين، فنجدهم يصرخون ويلوحون بتهديد متمثل في إنشاء نزعة عالمية تعمل على حلّ الهويات الأوروبية. بيد أنه، من كلا الجانبين، تعد الهجرة بمثابة ضربة حظ تشكل فرصة بالنسبة إلى البعض، مثلما تمثل هلاكا للبعض الآخر.

مثل هذا الصراع هو الحل اللقيط، وربما الوغد كما أطلق عليه، والعاطفي لمسألة لا تزال ضرورية. كيف نفكر في الكوني بشكل خاص؟ في هذه الحالة، كيف يمكن لمجتمع محدد تاريخيا أن يجسد قيما عالمية مثل قيمة الضيافة؟ وعلى العكس من ذلك، كيف يمكننا أن نفكر بالخاص في العام؟ وفي هذه الحالة، كيف يمكن لمثل هذا المجتمع أن يعرف نفسه من داخل هذا العالم الذي يطغى عليه ويحدّه من كلّ جانب؟

ثمة العديد من الطروحات والحلول التي نجدها في الغرب اليوم، لعل أكثرها لفتا للانتباه، هي تلك المتمثلة في العودة إلى أفكار الفيلسوف الألماني كنط. إذ أن جزءًا من عمله الفكري -كما تبدّى في نصه «مشروع للسلام الدائم»- ألهم بشكل مباشر الرغبة في بناء الاتحاد الأوروبي، لذا قد يكون من المناسب من دون شك إعادة قراءة كنط الهائل، في هذه الزاوية.

في مشروعه للسلام الدائم، طور كنط مبدأ «الضيافة العالمية»، حيث بدأ مقالته بتعريف هذا المفهوم فـ«الضيافة هنا تعني حق الأجنبي، عند وصوله إلى أراضي الغير، في ألا يعامل كعدو». «لا يمكننا أن نستقبله إن كان ذلك يؤدي إلى هلاكنا، ولكن أيضا، لا ينبغي للمرء أن يظهر عداوته له، ما دام يعيش في مكانه بسلام».

ما حاول أن يفكر فيه كنط، في مشروعه هذا، كان الحق «العالمي» (وهو يستعمل كلمة الكوزموبوليتي)، أي الحق الذي ينطبق على العلاقات بين الشعوب وعلى العلاقات بين الأفراد أنفسهم باعتبارهم ينتمون إلى الجنس البشري. ولذلك فإن مسألة القانون الدولي تثير وتطرح مسألة الضيافة.

بالنسبة إلى الفيلسوف الألماني، إن مسألة الضيافة غير مشروطة تقريبا. فبرأيه أن حق الضيافة هو «الحق الذي يجب على كلّ إنسان أن يقدم نفسه كعضو في المجتمع، بموجب حق الملكية المشتركة لسطح الأرض الذي-باعتباره كرويًا- لا يستطيع أن يتوزع إلى ما لا نهاية؛ ولذلك يجب عليهم أن يدعموا بعضهم البعض، وليس لأحد الحق الأصلي في التواجد في مكان على وجه الأرض بدلا من مكان آخر».

إلا أن هذا الحق يشكل حق الزيارة فقط وليس حق الإقامة. وبموجب سيادة كل دولة، لا يمكن للأجنبي أن يستقر في بلد بمفرده. القرار متروك للمجتمع المضيف. ويجب بعد ذلك ملاحظة شيئين: إن حسن الضيافة والمصلحة الوطنية ليسا متعارضين بداهة. ثانيا، القانون الكوزموبوليتي يجذب الخيال. لو حاولنا أن نشرح كلام كنط هذا، فسنصل إلى التالي: إن «الملكية المشتركة لسطح الأرض» من قبل جميع البشر لا تتوافق في الواقع في لحظة تاريخية معينة. لأنها تشكل فكرة أو ربما خيالا. لكنها فكرة ضرورية لأنها ترسي حق الملكية. لا يمكننا منع حيازة ما ليس ملكًا للفرد، إلا من خلال افتراض اتفاقية جماعية، حيث يرتبط البشر ببعضهم البعض من خلال تقاسم نفس العالم.

بمعنى آخر، يتشكل الخيال الذي يغذي حق الضيافة ويتكون من هذه القدرة على انتزاع أنفسنا بعيدًا عن بيئتنا المباشرة، من أجل النظر في إمكانيات علاقات جديدة مع الآخرين كما مع طرق تصرف أخرى. وهكذا يسهم الخيال في زيادة الواقع لأنه يسمح لنا بتوجيه أعمالنا بشكل أفضل. من هنا يجب عدم الخلط بينه وبين الخيال الذي ينقطع عن الواقع ليظل حبيس تشابكاته.

وهذا يعني أن فكرة الضيافة العالمية غير ممكنة. إن تقديم الواقع إلى الخيال أمر جنوني. بمعنى آخر، المثال الأعلى دائمًا يشبه الأفق: فهو يوجه أفعالنا ولكنه بعيد المنال (الأفق يتراجع عندما نقترب منه)، فهو ليس موضوع عملنا. وهكذا يرى كنط في مقاومة الأمم للاندماج في دولة عالمية، خدعة من الطبيعة البشرية تتنبأ بالكارثة التي ستحدث هناك. ومرة أخرى، فإن المثال الأعلى للضيافة غير المشروطة ليس مثل التدابير التي يجب أن تتخذها المصلحة الوطنية بشكل مشروع. ومع ذلك، فمن المرجح أن تلهمهم.

ولكن إذا بدت السلطات الأوروبية اليوم، وكأنها تؤيد هذا الأمر على الرغم من شعورها بالعجز في مواجهة أزمة الهجرة، أفلا يرجع هذا في نهاية المطاف إلى الغياب القاسي للخيال؟ لقد عرفوا منذ فترة طويلة أن هذه الأزمة كانت على وشك التشكل، وفضلوا تجاهلها، ليحاصروا أنفسهم في خيال تكنوقراطي يسمح لبعض المصالح الوطنية بالتراجع إلى الأنانية القومية.

هذه هي المفارقة إذن: آلاف المهاجرين أو اللاجئين يأتون ليصلوا إلى شواطئ القارة التي تجتذبهم، معرضين حياتهم للخطر، كما لو كان ذلك بقوة حلم - في حين أن القارة نفسها، التي تفتقر إلى الخيال، لم تعد حتى تحلم.

إن أوروبا التي تعيش أزمة، مهووسة، ومحتكرة، ومنهكة بسبب صراع التخيلات -الخيال المناهض للعنصرية والقومي والتكنوقراطي الذي يتصارع فيما بينها- إذ لم تعد أوروبا التي تمر بأزمة تؤمن بنفسها. لكن الثقة هي النقيض التام للقدر: فهي تجعلها قادرة على تعبئة موارد جديدة في مواجهة تحديات أكبر، حتى لو كانت مواردها تتشكل من حروب طاحنة، على هذا الغير.