No Image
ثقافة

السرد الخليجي النسوي ينتصر للمرأة

22 أبريل 2024
22 أبريل 2024

رغم مرورِ وقتٍ على صدور كتاب «السرد الخليجي النسوي» للكاتب البحريني فهد حسين، إلا أنه يظلُّ مرجعا مهما، سواء للباحثين أو القرَّاء المهتمين بالرواية التي تكتبُها المرأةُ في منطقة الخليج.

ميزة هذا الكتاب أنه تأسَّس على منهجٍ علمي واضح يتحاور مع كثيرٍ من الكتب التي سبقته، حول الموضوع نفسه، لتصبح المحصَّلة النهائية سبيكة طيِّعة، سلسلة ورصينة، كما أن هذا الكتاب كذلك لديه ميزة أخرى، تتعلَّق بلغته، فلا هي خفيفة مثل لغة الصحافة السيَّارة، ولا صعبة كلغة الأكاديميا، لكنها لغة تقدم المفاتيح للقارئ، بحيث يمكنه، من خلالها، أن يلج إلى فصول الكتاب الضخم، التي لا تترك شاردة أو واردة تخصُّ المرأة الكاتبة في الخليج إلا وأوردتها وناقشتها وسلَّطت الضوء عليها.

وأي قارئ سيجزم مبدئيا بذلك الجهد الهائل لفهد حسين، حيث ألمَّ بعدد ضخم من الروايات لكاتبات تنتمين إلى أجيالٍ ومدارس أدبية مختلفة، حتى أنه يمكن المغامرة والتصريح بأنه لم يترك رواية صدرت قبل تأليف هذا الكتاب إلا وقرأها وأخضعها للفحص، على أن هذه المبالغة من قبيل الثناء على دأبه وشمول اطلاعه بحيث غطَّى كثيرا من الكتابات الروائية في كل دول الخليج العربي، وهو لم يفصل بين متنه السردي وبين الاقتباسات التي ضمَّنها ونقلها إلينا، ولكنه ضفَّر كتابته بكتابة الروائيات بحيث امتزجا في نسيج واحد، وأظهر كلٌ منهما الآخر بشكل واضح، وترك للهوامش مهمة أن تقول لنا: إن هذا المقطع أو ذاك من رواية تلك الروائية أو هذه الكاتبة.

كما أن من ملامح شمول الكتاب أنه لم يترك شيئا يتعلق بموضوع البحث إلا وأورده، فهو يناقش كيف صاغت الكاتبات مشكلات المرأة الخاضعة لسلطة الرجل، وكيف تمردت عليه وعلى الأوضاع الاجتماعية التي كانت خانقة في الماضي، وكيف صاغت الكاتبات صورة الأم في أعمالها، وكيف رسمن صورة الزوجة، والصديقة، والمرأة العشيقة، أي المرأة المنافسة على قلب الرجل، كما يبحث كيف ظهر الرجل في أعمالهن، كما يتطرق إلى علاقة المرأة والتعليم، بمعنى أن بعض النساء ظهرن أميَّات في الروايات، وبعضهن كن يطمحن إلى التحرر وتجريب مغامرة التعليم، حتى أنهن تحدين عائلاتهن ورفضها الشديد لـ «بدعة التعليم»، ومن أجمل الفصول في هذا الكتاب هو ظهور المدن في روايات الكاتبات العربية، كالقاهرة وصنعاء ومسقط وجدة والكويت.

الواقع الصعب

والآن دعونا نتعرف على بعض ما جاء في الكتاب بشكل تفصيلي، وربطه ببعض الأمثلة..

يقول فهد حسين: إن الكاتبات العربيات حين بدأن في الاقتراب من عالم الكتابة المسحور، في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، طرحن العديد من الأسئلة حول أوضاعهن في المجتمع، وشكل العلاقة مع الرجل، وكذلك كيف يعشن الحياة والواقع الصعب من حولهن. يعلق: «لذلك عندما أقدمتُ على دراسة الرواية الخليجية حصرت الموضوع في الرواية التي أنجزتْها المرأة الخليجية لكي لا تتعب الدراسة وتتفرق إلى كل ما أنتجته المرأة».

يبحث فهد حسين عن علاقة المرأة بالآخر، كالأم أو الأخت أو العمة أو الصديقة، وكذلك الرجل، الأب، والزوج، والأخ، والحبيب، كما يبحث علاقة المرأة بالمكان والزمان ومدى تفاعلها مع محيطها واستجابتها للتطورات حولها واحتجاجها على محاولة طمس ملامحها أو إسكاتها أو وضعها في إطار أو حبسها تحت أسوار القماش..

وبحسب فهد حسين لا أحد يُنكر إسهامات المرأة العربية في تشكيل المشهد الثقافي والأدبي العربي، ولكن المجتمع الذي تأسَّس على تاريخ لا يُقدِّر دور المرأة كان وراء تواريها قسرا، فمنذ أن أُخرج نبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام والمرأة في نظر المجتمع مسببة للمشكلات ولا ترتقي إلى درجة الرجل في المجتمع بكل مجالاته، وهكذا بات المجتمع الذكوري يضعها في مرتبة أقل من الرجل ويلصق بها الصفات الدونية بشكل يهمِّشها ويقصيها، على أن تلك الكلمات الحادة لفهد حسين، كي نكون موضوعيين في قراءتنا لها، تتعلق بما كان يجري في الماضي، فقد تحررت المجتمعات، وحصلت المرأة على كثير من المزايا، وأصبح بإمكانها التعبير عن نفسها الآن بصورة قوية وجميلة للغاية.

مجتمع الرجال

ويلفت فهد حسين إلى أن كل كاتبة تستخدم مساحة كبيرة من روايتها لكشف مأساة المرأة أمام المجتمع الذكوري، ولبيان زيف المجتمع في نظرته إلى المرأة وتكوينها الجسدي والاجتماعي والثقافي، سواء كان المجتمع متحررا أو محافظا، وأنت حين تنهمك في قراءة أي عمل من هذا النوع سترى بجلاء كيف يتم إبراز الصوت النسوي، بحيث يُعبِّر عن قضية المرأة، ومحاولتها الانعتاق مما يحيط بها.

وفي فصل جديد يلفت فهد حسين إلى أن للأم دورا كبيرا في الفضاء السردي، كما هو الحال في واقعنا، فهي محرك رئيسي للحياة، وبالتالي هي من تقود عملية السرد أو تفجر الأحداث إن جاز لنا التعبير، وسنرى في كثير من الأعمال علاقتها بالزوج والأبناء والبنات، فهي الأم التي تربي أفراد الأسرة، وهي الجدة التي تراعي وتلاحظ شؤون الجميع داخل هذا المجتمع الصغير وتحاول مساعدته.

وقد يأتي دور الأم الاجتماعي الكبير بعد موت الزوج مثلا كما في رواية «ستر» لرجاء عالم، أو هجران الزوج لبيته كما في رواية «بدرية» لليلى حسن صقر، أو التخلي عن مسؤولياته الأسرية كما هو الحال في بعض أعمال قمَّاشة العريان، إذ بالحزن والأسى والألم تحاول الأم مقاومة الواقع المؤلم.

حاولت الرواية الخليجية، بحسب فهد حسين، طرح معاناة الزوجة وكشف عالمها الخاص والعام، وفي الوقت نفسه لم يأت تناول صورة الزوجة على وتيرة واحدة، وإنما جاء في أشكال مختلفة، فمثلا هناك الزوجة الراضية بسطوة الزوج وبما يجري لها، وهناك الزوجة التي ترفض العلاقة الزوجية وتلجأ إلى علاقات خارج إطار الحياة الزوجية.

وعلى سبيل المثال تصور رواية «النواخذة» لفوزية السالم حياة امرأة تُدعى «جنة» وكيف عاشت عبدةً في منزل سيدها، بعد أن أُخِذت عنوة من بلادها بدون إرادتها، كانت مجرد خادمة ذليلة في بيت سيدها وسيدتها، ترعى شؤون البيت وأفراده.

نكتشف مع توالي السرد أن المرأة جاء بها سيِّدُ المنزل «إبراهيم العود»، بحكم تجارته وتنقله بين البلدان والموانئ، ثم حاول أن يقترب منها حتى وقعت بين أحضانه، فجنة لم تقو على إعلان الرفض أو القبول أو حتى الامتعاض بقدر امتثالها للأمر الصادر من سيدها فهو المالك لكل شيء، ومن حقه بحسب الأعراف الاجتماعية غير الطبيعية أن يفعل ما يريد بحق ما ملكت يداه، وما الحمل بالنسبة له إلا أمر طبيعي، ولكن ما هو غير واقعي إمكانية الزواج من المرأة «العبدة»، بدون أن تكون حرة، بمعنى آخر فإن السيد حينما يعلم بأمر هذا الحمل فعليه أن يمنح المرة حريتها أولا لتكون زوجة له، وهذه هي الحرية التي كانت تطمح إليها المرأة «العبدة»، حيث ستكون حريتها متوَّجة بالزواج، ولكن في الوقت الذي تنال فيه الحرية والزواج، تكون قد حكمت على امرأة أخرى، هي زوجة سيد المنزل بالخنوع لرغبة السيد، وبهذا المعنى تحررت «العبدة» على حطام قلب سيدتها، بينما تأكدت قوة مكانة السيد الاجتماعية والاقتصادية والسيادية تجاه المرأة الضعيفة.

صورة الأب

الرواية الخليجية النسوية تناقش كذلك صورة الأب داخل العائلة وعلاقته بابنته، في إطار الإعجاب به وتمثل سلوكه وثقافته والتباهي أمام صديقاتها بما يمنحه لها من حرية في أمور شتى، وفي إطار النفور وعدم الارتياح إلى ما يتصف به من غضب وفرض سيطرة، وهذا ما تناولته الكاتبة قماشة العليان في «العنكبوت» حيث تبوء محاولات البطلة للتحرر بالفشل في وجه طوفان الطغيان الأبوي. لم تستطع الفتاة المواجهة ولا الوقوف في وجه أبيها ومعادلاته الحسابية التي رسمها لحبسها في مربعاتها ودوائرها.

وهناك طابع النفور تجاه الزوج الذي لا يُقدِّر الزوجة ولا يحترمها كإنسان له كيانه ومشاعره وتطلعاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بل يصر على أن يكون الآمر الناهي في الأسرة، بما أن المال ماله، كأنه اشتراها، وعليها أن تطيعه وتبيع له جسدها ومفاتنها الجسدية، فهي بالنسبة له آلة صماء لا مشاعر لها. من هذه النقطة يحدث الخلل في العلاقات الزوجية فتنتهي بالطلاق. يتتبع فهد حسين بعض حالات الزواج في الروايات، حيث تبرز في بعض الأمثلة علامات القبول والرضا والمحبة الصادقة، وفي بعضها الآخر علامات النفور من الزوج وعدم تقبله، وفي هذه الحالة تسرد الروائيات بيان سلطة الزوج إذ يصر على تنفيذ قراراته ولا يستمع إلى صوت زوجته ولا يعتبرها شريكته، وهي علامات موجودة في المجتمعات العربية بشكل عام والخليجية بشكل خاص.

ويلفت فهد حسين الانتباه إلى أن التعليم والنمو الاقتصادي للمنطقة أسهما في تطور المرأة الخليجية، خاصة بعد اكتشاف النفط واستخراجه وتصديره وتحول المجتمعات الخليجية من مجتمعات تعتمد على الصناعات التقليدية والرعي والصيد البحري والتجارة إلى مجتمعات تعتمد على الصناعة النفطية، التي أعطت هذه الدول مكانة اقتصادية مرموقة على مستوى العالم، بل زاد هذا التطور من أطماع الدول الغربية تجاه هذه الثروات، فجاءت المؤسسات التجارية والعربية والأجنبية والمصانع الخدمية والتطويرية وزاد عدد البنوك التجارية والاستثمارية وفتحت الشركات الكبيرة فروعا لها، بشكل جعل أي زائر إلى منطقة الخليج العربية يلاحظ تلك الحركة التطويرية الإنشائية والخدمية والتجارية والاستثمارية والخدمات الجامعية والتي فرضت الحاجة الماسة إلى الأيدي العاملة الماهرة والفنية والأكاديمية من جنسيات مختلفة، عربية وأجنبية، ومما لا شك فيه أن كل هذه التغييرات أعطت المرأة الخليجية الحق في أن تكون فردا فاعلا في المجتمع بدون قيد أو شرط.

صورت الرواية الخليجية عامة ظاهرة تعليم الفتيات، بوصفه «الوسيلة الرئيسية التي توصلت النساء من خلالها إلى إدراك طبيعة وضعهن وإمكانية تغيير هذا الوضع» كما يقول المفكر الأمريكي روجر آلان في كتابه «الرواية العربية».

يطرح فهد حسين كالعادة نماذج من الروايات المختلفة، ومنه هذا المشهد لليلى حسن صقر في روايتها «بدرية تحت الشمس. تكتب: «ضحك جمعة حتى اهتز جسده النحيل فاستلقى على ظهره مجيبا: أنتِ بنت والبنت مكانها البيت، رفعت بدرية رأسها بحذر وهي تقول بتردد: ولكني يا أخي أريد أن أتعلم في المدرسة. رد جمعة بحق: عيب، عيب يا بدرية. هل جُننتِ؟ اصمتي لألا تقطع أمي لسانك ويواريك أبي التراب».

يعلق: «هنا تصوُّر واضح لطبيعة المجتمع الخليجي آنذاك، ونظرته لتعليم الفتاة فليس الرجل أو الأبناء من يعارض تعليم الفتاة بل هناك المرأة نفسها التي ترفض دخول ابنتها هذا الحقل المهم، فعلى الرغم من إصرار الفتاة على طلبها وتحقيق حلمها فإن الأمر يصل من قبل الأح إلى الاستهزاء والضحك من الطلب ويعتبره غريبا في هذه الأسرة المحافظة».

الكتاب مرجع مهم، وهو محفِّز ومحرِّض على قراءة الروايات التي يوردها، إذ يختار بعناية كل مقطع، كأنه «فاترينة عرض» لكل الأعمال الجميلة الخاصة بالمرأة الخليجية.