No Image
ثقافة

الإنسان الكوني

26 مارس 2024
26 مارس 2024

في نص له نُشِر في مرحلة متأخرة (المنطق، المدخل III)، وحَظي بشهرة كبيرة في ذلك الزمن -وربما لغاية اليوم!-، يُحدّد الفيلسوف الألماني كانط مجال الفلسفة من خلال ثلاثة أسئلة تتناول مشكلة عامة، هي مشكلة الإنسان. في حين، أن هذا المسار الذي اتخذه فيه، يُعدّ أكثر أهمية من تحديد مسألة المعرفة، ومسألة الأخلاق، ومسألة الغائية، باعتبارها الموضوعات الرئيسية التي تقتصر عليها الأسئلة الفلسفية (الكبرى)؛ إذ نجده يحصر مجموعة من الملكات التي -على الرغم من أنها لا تُعتبر بشكل عام محددة للاختلافات البشرية- تنطوي على السؤال عينه: الكوني -وإن جاء ذلك في اتجاهات مختلفة بالتأكيد-.

في الواقع، نجد أن الجميع متفقون على أن مسألة حدود المعرفة وأصلها، وبالتالي العلم أيضًا، تحدد مسألة الإنسان، وتنشرها في الاتجاه الأول، وهو الاستخدام النظري لقدراته الفكرية. أما إذا كانت مسألة الحدود هذه تتعلق بمسألة الأصل، فإن دراسة أصول المعرفة لا يمكن أن تستغني عن تحليل الخصائص الخاصة بالأحكام العلمية. لذا قد نسأل أنفسنا بعد ذلك ما هي الطروحات التي يمكن أن نعتبرها صحيحة، وعلى أي معايير يمكن أن نعتمد هنا؟ هذه هي المشكلة التي نحلها عادةً من خلال التمييز بين خاصيتين محددتين، خاصية الموضوعية وشمولية الموافقة الممنوحة لحكم من النوع العلمي. وبذلك يكون الكوني علامة الحقيقة وما يطمح إليه الإنسان في الاستخدام النظري لقدراته.

ولكن إذا كانت الفلسفة هي دراسة مصادر المعرفة وحدودها، أفليست هي أيضا، كما يتضح أيضًا من لهجات التقشف التي ميزت تعبيراتها الأولى في العصور القديمة، التساؤل الذي يؤثر على الاستخدام العملي لنشاط الفلسفة؟ أليست هي نوع من "معتقد"؟ كيف تحيا لتعيش بسعادة؟ ما هو معنى القيام بالواجب، (واجبنا)؟ هناك الكثير من الأسئلة التي يبدو أنها بدورها تشغل الكوني. لأنه -وقبل أي شيء- كيف تجيب على السؤال "ماذا عليّ أن أفعل"؟، وقبل كل شيء، ما هو معنى هذا السؤال، إذا لم نفترض مسبقًا ضرورة معرفة ما إذا كان من الممكن، نعم أم لا، تحديد قواعد الأخلاق العالمية، الكونية؟ يمكننا الرد بأن هذه الأخيرة ترتبط دائمًا بثقافة ما، أو بعصر ما. ولذلك يمكننا أن نرفض فكرة الأخلاق العالمية، التي تعطي القوة للأضعف والواجبات للأقوى. ولكننا لا نستطيع أن ننكر، من ناحية، أن المشكلة تحديدًا تكمن في معرفة ما إذا كانت الفكرة الأخلاقية كونية؛ ومن ناحية أخرى، فإن طرح مسألة عالمية الحقوق والواجبات ليس شيئًا آخر، في العمق، سوى مضاعفة مسألة الكونية من خلال مسألة وجود الجنس البشري. ومن هنا نرى، في الواقع، أنه ليس من المستغرب أن تظهر فكرة حقوق الإنسان حيث -على وجه التحديد- أسندت فكرة الإنسان الكوني، الذي شق طريقه، إلى المؤسسات السياسية واجب ضمان هذه الحقوق.

ومع ذلك، هل يستطيع الإنسان الكوني -النظري والكوني -العملي أن يحجب هذه الملكة التي يظهرها الناس في كلّ مكان من خلال الطقوس والأديان، أي تمثيل الموت، موتهم الخاص. من هنا تأتي بالطبع مسألة الخلاص، أي كيف يُخلّص الإنسان نفسه. "فماذا إذن يمكنني أن آمل"؟ هذا هو السؤال الذي لن يتمكن أي إنسان، مدرك لمحدوديته، من الهروب منه. لكن أليس هذا السؤال، الذي ليس سوى سؤال غائي، وبالتالي سؤال الغائية، هو السؤال الذي يعيد الإنسان إلى السؤال الأكثر جذرية؟ أليس هذا هو السؤال المطروح حول معنى الوجود؟ ما الذي يمكن أن يكون أكثر كونية في الإنسانية من هذا التساؤل؟ ما الذي يقلق البشر بقدر ما يتعلق بالبحث عن المعنى، وما هو أكثر ما يخشونه إن لم يكن انهياره؟ وبالتالي فإن السؤال الغائي هو أيضًا، وربما أولاً وقبل كل شيء، سؤال التاريخ، وبالتالي سؤال الكوني. لأن التساؤل عمّا إذا كان للتاريخ معنى، إلى جانب عدم اكتماله ومآسيه واضطراباته، ألا يظل يبحث تحت أي ظروف يمكن له فيها أن يتخذ أهمية عالمية للإنسان؟ وهذا "ما يذهلنا في الموضوعات الفردية بشكله المتشابك وغير المنتظم" [كنط أيضا في ديباجته لمقالته "فكرة التاريخ العالمي من وجهة النظر السياسية الكونية"] فهل لا يزال من الممكن اعتبارها تعبيرًا عن تطور قدرات الجنس البشري؟ هل ينفذ التاريخ تصميمًا إلهيًا، أو خطة خفية للطبيعة، أم يجب علينا أن نعقد العزم على رؤية الفوضى والصوت والغضب والدم والخراب فقط؟ وهذا أيضًا هو الاتجاه الذي ينشر فيه الكوني مسألة الإنسان.

لذلك ليس من المستغرب أن تكون الفلسفة، منذ أفلاطون، ومن خلال تنوع الأسئلة التي تشغلها، اهتمت بمسألة الكوني بشكل كبير وشديد. في شكل الجوهر، أليس هذا هو ما يعبر عن الهوية غير القابلة للاختزال لهذا الموضوع أو ذاك من المعرفة، متجاوزًا تعارض الواحد والآخر؟ كيف يمكننا أن نعرف إن لم يكن عن طريق فصل أنفسنا عن أحداث جوهرية معينة وجمعها معًا تحت الكون العام الذي يتجاوزها؟ فيكون فعل المعرفة أولاً هو الذي يشتمل على إدراك الكلي تحت الخاص. في حين، أنه إذا كان من الممكن اعتبار هذا موضوعًا للمعرفة، أليس في المقام الأول ما يؤهل هذه الملكة التي نقول إنها مشتركة عالميًا، أي العقل؟ أليست هذه العالمية على وجه التحديد هي التي تدعم فكرة الحق غير القابل للتصرف في تطوير قدرات الفرد العقلانية والوصول إلى المعرفة؟ وهكذا، كان فلاسفة عصر التنوير، باعتبارهم ورثة مستحقين لكونية ديكارت العقلانية، هم الذين أعلنوا أن لكل إنسان، بطبيعته، حقا في المعرفة، وبالتالي أكدوا حق المعرفة في مواجهة السلطة. بينما، ما الذي يمكننا أن نبني عليه هذا الحق إن لم يكن التاريخ، الذي تتمثل مهمة الفيلسوف على وجه التحديد في إظهار أن له معنى؟ أولا، الوصول التدريجي والبطيء إلى التنوير. ثانيا، ظهور عصبة الأمم الحقيقية.

وهذا ما تفتقده لغاية اليوم.