الصفحة الأولى من مقدمة التراجم
الصفحة الأولى من مقدمة التراجم
ثقافة

أضاميم .. «تراجم» عبدالله الخليلي عن أعلام الفقه والأدب بعمان

28 مايو 2022
28 مايو 2022

أحسَسْتُ وأنا أقرأ مخطوطة كتاب «التَّراجِم»، لشيخنا الشاعر الكبير عبدالله بن علي الخليلي رحمه الله، (ت: 2000م)، كتبها في أصدقائه الشعراء، ومشايخه الفقهاء، وأهل البيان من العُمانيين، أحسست وكأني أعرفهم لأول مرة، وأعيد اكتشافهم من جديد، فقد قدَّمَهم بأسلوب أدبي يأخذ بمجامع القلوب، تشعر من خلالها أنَّ الكاتب مشحون بعاطفة المحبة التي يَكنُّها لهم، وغير مشغول وهو يقدِّمهم أنه صاحب مكانة مرموقة في الشعر والأدب.

كتاب التراجم، أو كما أسماه مؤلفه عبدالله الخليلي: «نُبْذة مختصرة عن تراجم بعض الأعلام المعاصرين بعُمان»، يتضمن تراجم عن عشرين شخصية، من أترابه وأصدقائه ومشايخه، عايشهم وعرفهم عن كثب، ورغم أنه ألَّفه في فترة شبابه، ومن ترجم لهم كانوا على قيد الحياة، إلا أن الكِتاب ما يزال في عداد المُؤلفات التي لم تُنشر له.

عشرون شخصية، قدَّمها الشيخ عبدالله الخليلي في كتابه التراجم، يتفاوت في تقديمه بين نصف صفحة أو صفحة أو صفحتين، وهم بحسب ترقيم المخطوط، وبالأوصاف التي أسبغها عليهم: الأستاذ الكاتب الكبير سالم بن سليمان البهلاني، والأديب العبقري خالد بن هلال الرحبي، والعلامة الفقيه حمد بن عبيد السليمي، والسيد الشاعر هلال بن بدر البوسعيدي، والشيخ الشاعر علي بن جبر الجبري، والأديب الشاعر موسى بن عيسى البكري، والشاعر المطبوع أحمد بن عبدالله الحارثي، والفقيه القاضي سالم بن حمود السيابي، والشاعر المقرئ عبدالله بن ماجد الحضرمي، والعلامة المحقق إبراهيم بن محسن العبري، والشيخ الفقيه عيسى بن صالح بن عامر، والشيخ الفقيه القاضي سعيد بن خلف الخروصي، والشاعر الموهوب حميد بن عبدالله الجامعي، والأديب الكاتب عيسى بن ثاني البكري، والأستاذ الكبير النحوي حمدان بن خميِّس اليوسفي، والكاتب الأديب علي بن منصور الشامسي، والأديب الماهر محمد بن راشد الخصيبي، والأديب العبقري سليمان بن خلف الخروصي، والشاعر حبراس بن شبيط، وشيخان العلامة خلفان بن جميِّل السيابي.

يدخل القارئ لهذا الكتاب المخطوط، في أسئلة مع هذه القطع النثرية الرَّفيعة، تلحُّ عليه وهو يقرأ عنهم، هل ما كتبه الخليلي: تراجم أم شهادات؟، ولماذا هؤلاء دون غيرهم؟، إذ ليسوا جميعهم شعراء، فهم نماذج من عشرات الشخصيات الأدبية والفقهية التي كانت قريبة من الخليلي، ثم لماذا لم يخرج هذا الكتاب محققًا ومطبوعًا، وفيه من البيان ما يؤكد على ملكته في كتابة النثر.

بدأ الكتاب المخطوط بمقدمة صدَّرها بعنوان: «العَبقريَّة»، ويبدو أن الشيخ عبدالله الخليلي مؤمن بإيحاءات هذه الكلمة، وكأنه يُحيل نهر الإبداع إلى منبعه الحقيقي وهو «العَبقريَّة»، ولذلك سَمَّى ديوانه الأول: «وحْيُ العَبقَريَّة»، الصادرة طبعته الأولى في عام 1978م، عن وزارة التراث القومي والثقافة.

في مقدمته «العَبقريَّة» لكتاب «التراجم»، يكتب الخليلي: (إن الصُّمود في ضرب الحياة طولًا وعرضًا، والمخاطرة بالوعي، والمغامرة في التفوق والمكاثرة في النبوغ، لهو حياة العبقرية الخالدة، والإنسانية الحقة، والمُثل العليا، والقيم الإنسانية التي طالما تحطمت عليها آمال الرجال، وجدَّت أعناقهم، وهم ما زالوا وراءها على اختلاف نزعاتهم، ومبادئهم وبيئاتهم رغم القواطع، حيث إنَّ الشعر لسان العرب، والشاعر لسان قومه).

وكتب أيضًا: (كما قيل إن كل العلوم يمكنك التوصُّل إليها بشيخ أو كتاب، إلا الشِّعر، وأقول: إلا التفوُّق والنبوغ، فإنهما مرحلتان قلما أوصل إليها ابن نُهْيَة، ففي الشعراء من يكون مُفلقًا، وشاعرا، وشُويعرًا، وشُعْرُورًا، ومُتشاعرًا، وكلهم يؤلف كلمات عربية، ولكنَّ الذوق السليم هو الذي يفرِّق بين هذا وذاك، وهنا نلمس كلمة العبقرية، أنها كالهالة المُحيطة بالحقيقة الإنسانية السامية، بكل معنوياتها المشرقة، في ظلام الوحشية الضارية، والحيوانية الرَّادعة، التي ينطبق عليها معنى كلمة اللاإنسانية أو اللاأخلاقية).

ويتحدث عن تراجمه ويصفها بالومضات، فيقول: (إنني من خلال هذه الومضات اللامعة، أتبيَّن طريق حياة، يجب أن تكون مترسم كل ذي عبقرية، ولهذا تراني أندفع وراء الواقع مرَّة، وخلف الخيال أخرى، أجرِّد من ذلك الواقع شخصًا، تشعُّ لباصرتي منه مسالك الخيال الصَّادق، وكم تكون دهشتي آنذاك من سرعة البديهة أحيانًا، وتمرُّد الهاجس أخرى، فأحسُّ وكأنَّ قلمي كمن بات يطارد كتائب الجَراد، إن ظفر بكتيبة ندَّتْ منه كتائب أخرى).

بهذا الحس الشاعري، واللغة النديَّة المُقطَّرة، يكتب الشيخ عبدالله الخليلي مقدمته العَبقريَّة، لكتابه «التَّراجم»، وكقوله فيها أيضًا: (لقد كنتُ وما زلتُ أحلم بأمنية جسيمة، وأقلِّبُ عنها صُحف الحَياة، فلا أنتهي غالبًا إلا إلى صفحات الأدب، بين خطابته وكتابته وشعره، فأترَسَّم تلك الخُطا، لا علوقًا بها، ولكن لعلي أصل إلى الهدف، فيتحقق حلمي، وتستجيب أمنيتي، ولقد يُخيَّل لي أنَّ الأدب عَوْنٌ على الدأب، المُوصِّل إلى الإرَب)، فتراه حينها يُحَلِّق كالعقاب بعيدًا، وحينًا آخر يدنو من الفكرة وتحقيق الهدف، وهو برأيي لم يقدِّم عمن كتب عنهم تراجم، بل شهادات أدبية من شاعر كبير، ولعله لمس فيهم روح العبقرية التي هي سِرُّ الإبداع.

ابتدأت التراجم بالكاتب سالم بن سليمان الرَّواحي، يصفه بإمامٍ في العربية، ويقول عنه: (إنه سلس القياد، لو شاء أن يذيب سواد أعين العين، ليكون ذوبها مشرب قلمه السيَّال لفعل، ولو شاء أن يسوِّد صحف الدَّهر، بما في وجوده من عبر وآثار تاريخية، لما جَفَّ معينه، ويصفه بأنه يحوي إلى جانب موهبة القلم الحَسَن وتحبيره، يحوي كذلك موهبة الشِّعر، ولا بِدْع فإن عمه الشاعر المُفلِق: أبا مسلم ناصر بن سالم البَهلاني).

ويبدو أن ملكة الخليلي الشِّعرية، تجعله يُحلِّق في الكتابة، بتصعيد ملحوظ، وينسى أنه يكتب ترجمة عن شاعر أو أديب، فيستفيض في الوصف، وكأنه يكتب قصيدة.

ولم يقدم الخليلي نماذج من إبداعات من كتب عنهم، ما سوى الشاعر خالد بن هلال الرَّحبي، الذي استشهد ببيتين من شِعره، بعد أن وصفه بأنه (أديب عبقري، وشاعر موهوب)، وهذا الوصف يتكرر في تراجمه لشعراء آخرين، كأبي سرور، وسليمان بن خلف، والسيد هلال بن بدر.

يكتب الخليلي عن خالد بن هلال الرحبي، فيصفه أنه (يجيد السَّبك، ويحسن الصناعة، ولشعره رونق جذاب، قوة في المعنى، ومتانة في التركيب، وسلامة في المأخذ، ورشاقة في الأسلوب، ورقة في اللفظ، وانسجامًا في التأليف)، ثم يسبغ عليه وصفًا مشوبًا بعبارات أدبية فيقول عنه: (كان يقول في شتى المناسبات، ويرمي فيصيب الهدف، ويشف تخييل الحقيقة فيستعير، ويرمقه شبَح الحبيب فيُعرِّض، ويخشى الرَّقيب فيشير، وتخدمه الذاكرة فيستخدم، ويرى الواشي فيُكني، ويلحظ العاذل فيتجاهل، وينعته الحارس فيستدرك، وينشره الأمل فيطوي، ويناجيه الخيال فيوري)، ويعجبني قوله:

قلتُ وقد سَمِعَتنِي

أئِنُّ مثلُ الجَريحِ

أرُوحُ إنْ لمْ تبِنْ لي

ما تشتَكي قلتُ: رُوحِي.

أما عن «شَبَحِيَّة الحبيب»، فأحسب أنه مجرد وصف أضفاه على شعر خالد الرحبي، وينطبق أكثر على شعر الخليلي، لذلك كانت آخر قصيدة نظمها الخليلي بعنوان: «شَبَحُ الهَوى»، مطلعها: (رَبَطتْ سُراهُ على الهَوَى بسُرَاها)، نشَرَتها في جريدة عُمَان بتاريخ: 16 ديسمبر 1998م.

ومن كتاب التراجم، نستشف الكثير من أدبيات الرسائل لبعض الأدباء، وما تزال أضاميم في مناديس ورثتهم، من أمثال الكاتب الناثر سالم بن سلميان الرواحي: يقول الخليلي: (لقد قرأتُ من «رسائله» بما لو وُضِع على نحور الحِسَان، لكان العِقد النفيس، الذي يزدهي بملبَسه الجَمال، ويحسده عليه الحسن، ويغبطه الدَّلال، وينبعث من بين جواهره اللمَّاعة هاجس الغرام، ويحتكم من إطار تلك الهالة سلطان الهوى على القلوب).

ونستشف من حديثه عن الشيخ عيسى بن صالح بن عامر، أنه كاتب ناثر، يقول عنه: (يجيد النثر، وتوجد عنه «رسائل نثرية» تطرق فيها إلى كثير من المجالات، وفي شتى المناسبات)، ويلمح في حديثه عن الأديب عيسى بن ثاني البكري، أنه (يقول النثر فيُحسِنه)، وفي ترجمته عن الأديب علي بن منصور الشامسي، صاحب الصوت الموسيقي الشَّجِي، يؤكد الخليلي أنه قرأ رسائل نثرية للشامسي: (ولكم وقفت على «رسائله النثرية»، أستمتع بما أجده في غضونها من رقائق أدبية، ودقائق فنية، ولُمَع وإشارات، ونُكت معجبة، فكأنها روضَة غنَّاء بين أزهارها الفاغِية، وأكمامها المُفتحة، وأثمارها المُتدلية)، هذه الرسائل لا تزال أدبًا ضائعًا، فأين عنها الباحثون والناشرون، بل أين عنها مؤرخو الأدب العماني؟

وفي ترجمته عن السيد الشاعر هلال بن بدر البوسعيدي أو «الشاعر الظريف»، كشف أنَّ له كتابًا ضائعًا في تاريخ العرب العرباء والعرب المستعربة، لكنه (تلاشى بينه وبين أمانيه، التي شاء لها الجد أن تخفق)، ويتحَسَّر الخليلي على ضياع ديوان الشاعر هلال، ولكن (بعد سَعْي، استطعنا أن نحصل على النَّزر اليَسير من شعره الرَّقيق)، والديوان المطبوع للسيد هلال بن بدر يمثل ذلك، صدر الديوان عام 1985م.

إن كتاب «التَّراجِم» للشاعر عبدالله الخليلي، فريد في فنه، يعكس رؤيته لأعمالهم الشعرية والنثرية، وتتكامل فيه نصاعة البيان ورشاقة اللغة، مُقدِّمًا رسائل وفاء، لشخصيات هي اليوم من رموز الشعر والأدب العماني، وجدير به أن يُحقَّق ويُطبع.