No Image
تقارير

تناقض النسوية الأمريكية في العالم الإسلامي

18 أكتوبر 2021
18 أكتوبر 2021

في أواخر صيف عام 2001، غادرت فتاة تدعى جيجي، في الرابعة عشر من عمرها، بيتها في القاهرة، بصحبة أبيها إبراهيم وأختها، ليبدأوا حياة جديدة في الولايات المتحدة، مستقرين مع قريب لهم في (أناهيم) بكاليفورنيا. التحقت الفتاة بمدرسة كاثوليكية قريبة. كانت في أسبوعها الثاني بالمدرسة حينما قامت جماعة مختطفي طائرات بتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر مثيرين نوبة وطنية من الحزن والرغبة في الثأر ستسم بداية حياة جيجي مراهقةً في الولايات المتحدة.

في اليوم التالي لسقوط البرجين، اقتحمت عناصر متجهمة الوجوه من المباحث الفيدرالية منزل إبراهيم وسط فزع العائلة. كان فيضان من المكالمات قد انهال على الخطوط الهاتفية الساخنة في ذلك الأسبوع من أمريكيين محترقي الأعصاب يبلغون عن إرهابيين. وضمن المتصلين المتوترين كان جيران للأسرة، إذ تخوفوا ـ حسبما أوضحت العناصر الفيدرالية ـ من اصطفاف سيارة مستأجرة حديثا أمام بيتهم، ومن كون عم لإبراهيم في بعض الأحيان يسير في الحي جيئة وذهابا في وقت متأخر من الليل (ويقابل الصباح في القاهرة) مجريا مكالمات هاتفية زاعقة بالعربية.

في المدرسة، طولبت جيجي ـ وهي المسلمة الوحيدة في صفها الدراسي ـ بتقديم عرض أمام المدرسة كلها تشرح من خلاله الإسلام. قالت "قبل ذلك كنت مصرية وحسب، ثم أصبحت البنت المسلمة المصرية. في حين أن أسرتي ليست شديدة التدين أصلا. إذ ذاك أدركت: سوف تكون حياتي مختلفة بسبب ما أنا إياه".

ازدادت التوترات، إذ بدأ الساسة يناقشون الحرب القادمة في أفغانستان بوصفها حملة قويمة لمنع مسلمين ذوي عقليات من القرون الوسطى من قهر ملايين النساء. فلم تكن الحرب على طالبان محض عقاب، بل لقد كُلِّل الغزو بتاج التحرير. قالت جيجي إبراهيم إن "الخطاب جرى على النحو التالي: "هؤلاء المسلمون يضربون النساء ويقتلونهن. ونحن الذين سنحررهن، وننزع عنهن البراقع، وننزع عنهن الحجاب". وهكذا كانت بداية الخطاب المناهض للحجاب".

وكانت المفارقة في نظر جيجي إبراهيم هي أن تلك الخطب والعناوين القائلة بإنقاذ نساء المسلمين في أفغانستان كانت تغذي الشكوك والإهانات التي صار عليها أن تحتملها بوصفها مراهقة مسلمة أمريكية.

***

أعترف بأنني دائما ما كنت أستاء من حديث الأمريكيين عن حقوق النساء في أفغانستان وأراه ـ حتى مع توافر حسن النية ـ تقريظا للذات، وبخاصة في سياق غزو عسكري. لكن كل الجهود التي بذلت والنقود التي أنفقت في ما بعد 11/9 أدت إلى توسيع جلي لإمكانيات الفتيات والنساء الأفغانيات. فتحت مدارس البنات للتلميذات المتلهفات. وصدر قانون شامل لتجريم العنف ضد النساء. وأتاحت شبكة ملاجئ للنساء الهرب من معذبيهن في البيوت، برغم اعتراضات المحافظين المتدينين الذين اعتبروا تلك الملاجئ بيوت دعارة وحاولوا إخضاعها لسيطرة الحكومة.

قالت هيذر بار من منظمة هيومن رايتس ووتش التي عملت في أفغانستان منذ 2007 وعاشت ست سنين هناك إن "المكتسبات التي تحققت جادة ومهمة. ربما اكتسحت جميعها الآن، لكن قبل شهرين فقط كان يمكنني أن أقول لك إن نساء أفغانستان حققن تقدما ملموسا".

انتقدت بار أوجه قصور الولايات المتحدة لكنها قالت إن الصورة معقدة. فالولايات المتحدة، حسبما قالت، أنفقت بسخاء على حقوق النساء، لكن الدبلوماسيين عزفوا عن تخصيص رأسمال سياسي لمهمة صعبة هي الضغط على الرجال في الحكومة الأفغانية لدعم تقدم المرأة. وقالت إن أفعال أولئك الحلفاء الجدد كانت في كثير من الأحيان تحظى بالتكتم. "فبإحدى اليدين تصدر شيكا سخيا وضخما، وباليد الأخرى تصافح أيدي مجرمي حرب تتضمن جرائمهم العنف ضد النساء".

ومع ذلك شق جيل من الفتيات الطريق عبر الدراسة، فيما وجدت النساء وظائف كانت من قبل مقصورة على الرجال، وانتشر ـ بصورة ضئيلة وغير متوازنة لكنها أكيدة ولا تنكر ـ إحساس بالإمكانية. والسؤال الآن، في ضوء انتزاع تلك الفرصة انتزاعا مباغتا، هو: هل كان في ذلك شكل من أشكال القسوة؟

"هل كنا نؤمن بهذا؟ نعم كنا نؤمن به" كذلك قالت حسنى جليل أول امرأة تعين في موقع رفيع بوزارة الداخلية الأفغانية مضيفة "إنني أومن أن وجودي في الحكومة الأفغانية كان إلى حد كبير بسبب وجود المجتمع الدولي. وإلا لركلوني خارجا منذ اليوم التالي".

قالت "إنه ليخجلني القول إن المجتمع الدولي هو الذي أرغم حكومتي على القبول بي. لكن، نعم، لقد أحدثوا فارقا".

كانت حسنى جليل في التاسعة من العمر حينما غزت الولايات المتحدة أفغانستان. أدركت والدتها ـ الطبيبة ـ بسرعة أن الإطاحة بطالبان قد تعني إمكانية إلحاق ابنتها بمدرسة. وحتى ذلك الحين كانت حسنى تتلقى تعليما سريا بإشراف جارٍ متعلم، وكانت مدرَّبة على إخفاء كتبها في الشوارع وعلى الكذب إذا ما صادفت عضوا في طالبان. وكان لها معلم خاص آخر ـ يدرِّسها الإنجليزية ـ اعتقل في النهاية بسبب علاقاته بطالبان، إذ تبيَّن أن قبو البيت الذي كانت تقام فيه الدروس هو مخزن أسلحة. لم يزل يصعب على حسنى أن تصدق ذلك، فقد كان معلمها، وكان عطوفا عليها.

بعدما كانت نجمة بازغة في حكومة تبدو ـ في ضوء انهيارها السريع ـ وكأنها لم تكن أكثر من ديكور مسرحي، تعيش حسنى جليل الآن في واشنطن، تتابع أفغانستان من بعيد، وتقيِّم في مرارة مسلك الجميع. شاهدت طالبان وهم يستقرون في السلطة، ويضربون المتظاهرات، ويبيدون وزارة شؤون المرأة، ويستأنفون الدراسة الثانوية للأولاد دون البنات. قالت حسنى جليل إنها تتألم لا بسبب النساء الأفغانيات وحدهن بل وبسبب الرجال الذين ناصروهن في كفاحهن. "كان يمكن أن أكبر مرتدية البرقع، متبعة نمط الحياة السائد في ظل نظام طالبان، فما كان لينتظرني أي مستقبل، وأنت حينما تمنح شخصا قطعة حلوى ثم تنتزعها منه، يكون هذا شديد الإيلام. وكل أولئك الصغيرات، بالملايين، قد انتزع من أيديهن ما كان فيها، وهذا شديد الإيلام".

قال الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في 2001 إن "الهدف الأساسي للإرهابيين هو القمع الغاشم للنساء". ورددت قرينته السيدة الأولى لورا بوش الكلمات نفسها في تلك السنة في خطاب إذاعي حماسي أشارت فيه إلى تهديد طالبان باقتلاع أظافر من يطلين الأظافر من النساء.

لكن ليس بوسع بوش الزعم بأنه خاض الحرب بالنيابة عن المقهورات، حسبما قالت لي ساره ليه ويتسن المديرة التنفيذية لجماعة "الديمقراطية من أجل العالم العربي الآن" الحقوقية. قالت ويتسن إن الولايات المتحدة بينت بوضوح عزمها على "المحاربة من أجل حقوق النساء حيثما يكون لنا أعداء، مع الصمت إزاء حقوق النساء حيثما يكون لنا أصدقاء".

***

كتبت مرة مقالة صحفية عن الحجاب. والآن أشعر بالأسف أني فعلت هذا. كان ذلك في عام 2005، وكنت مقيمة في القاهرة. مضيت في المدينة أسأل النساء لماذا بدأن ارتداء الحجاب أو لماذا خلعنه. تكلمت مع الزبائن في متجر أنيق للحجاب ومع نسويات علمانيات، وزرت غرفة المعيشة في بيت قاضٍ عاش مهددا بالقتل من الإسلاميين لقوله إن الإسلام لا يفرض على النساء ارتداء الحجاب. ثم كتبت مادة طويلة أوضحت فيها جذور الحجاب في الدين والثقافة، وكيف أنه أصبح رمزا سياسيا، ولماذا ترغب الناس في أو عن ارتدائه.

وفي السنين التالية لكتابة المقال فكرت فيه بغير ارتياح إليه، وأمكنني أن أضع يدي على سبب انزعاجي. ليس في النص نفسه ما قد أغيره الآن. لكنني حينما أتذكر مزاج القراء، أشعر بشيء غير لائق في التناول.

كان كثير من الأمريكيين يعتقدون آنذاك أنهم في حرب مع الإسلام. والإسلام من أديان العالم العظيمة، بنصوصه المركبة، وأجياله من العلماء، وتأويلاته المختلفة، لكنه اختزل في فكرتين اثنتين في الخيال الأمريكي هما الجهاد وقمع المرأة. يبدو لي ذلك المقال الذي كلفت بكتابته رمزا للحظة شعر فيها الصحفيون في الغرب بحرية إبداء الرأي في أعماق الإسلام، محاولين إضفاء الإثارة على كتاباتهم باستعمال كلمة "الله" بدلا من كلمة "الإله" وهم يكتبون عن المسلمين. لقد قرأت تلك المقالة في زمن كان الأمريكيون فيه يتحلقون ليتناقشوا في مدى سوء المسلمين.

الآن أتساءل عما لو كان أفضل فهم لتناولي ذلك للحجاب هو باعتباره استمرارا غافلا لتراث الاستعماريين الغربيين الذين أدانوا حجاب النساء وهم يغزون الأراضي الأجنبية وينهبونها. فعل الفرنسيون هذا في الجزائر، وفعله البريطانيون في مصر. ثم واصلت الولايات المتحدة التراث في أفغانستان. كانت الأخبار التليفزيونية تمتلئ بالتلاعبات والتكهنات الرهيبة، وبأناس ينذرون بسيناريوهات انهيار العالم وهم يتكلمون عن الجهاد والشريعة غير واعين بتلك المفاهيم إلا وعيا باهتا. والنساء... فجأة امتلأت النساء خوفا على النساء، ولكن على نساء معينات.

أعتقد أننا جميعا نعرف هذا، حتى لو أنها معرفة أولية، نعرف أن الإعلان عن قيود نساء أفغانستان لم يكن مفيدا فقط لأننا أردنا أن نخوض الحرب، ولكنه أتاح لنا أيضا أن نشعر بأننا مستنيرون ومتفوقون. كانت طريقة لإلقاء بعض العار خارج أنفسنا. ففي الولايات المتحدة يُلبس الآباء بناتهم الثياب البيضاء، ويلبسونهن خواتم الطهر [purity rings]. وينتظر من الأخ الكبير أن يفزع صاحب أخته في موعدهما معا ليعلن عن نفسه بوصفه كلب حراسة سيكولوجيا عليها في غمرة تفتح وعيها الجنسي. ونحن لا نعترف بوجود رابط، من أي نوع، بين هذه الممارسات وقوانين الوصاية والقتل للشرف التي نؤيقنها في العالم برغم أنها ثمار متنوعة لشجرة واحدة هي الفكرة السائدة عالميا بأن جسد المرأة ملك لرجال عائلتها، وأنها هي نفسها ثمينة تستوجب الحماية.

***

لم تضع دروس سنوات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر على جيجي إبراهيم، التي تنامى اهتمامها بالسياسة، ورجعت في عام 2008 إلى مصر حيث التحقت بالجامعة الأمريكية في القاهرة. وباتت زعيمة في الثورة على حسني مبارك، وواحدة من أشهر وجوه ميدان التحرير، تروج لمبادئ الاشتراكية الثورية وتستعمل حسابها في تويتر للمساعدة في الإطاحة بالرئيس المصري المدعوم من الولايات المتحدة. باتت ضيفة ثابتة على سي إن إن، ووصفتها جودي وودرف من بي بي إس بـ"رمز الانتفاضة". وظهرت على غلاف مجلة تايم مع ناشطين شباب آخرين تحت كلمات "جيل يغير العالم".

اليوم ماتت ثورة جيجي إبراهيم. لعل المرة الأولى التي سمع فيها الأمريكيون باسم عبدالفتاح السيسي كانت في 2011 حينما أقرّ بأن الناشطات تعرضن "لكشوف عذرية" قسرية. قال السيسي إن الكشوف ـ التي اعتبرتها جماعات حقوق الإنسان اعتداء جنسيا وتعذيبا ـ كانت ضرورية، إذ كان على الجيش أن يدافع عن نفسه ضد الاتهام باغتصاب النساء في الحبس.

وما زالت مصر تستفيد من المساعدات الأمريكية المتمثلة في النقود وفي المعدات العسكرية. في الوقت نفسه، تحبس الحكومة عشرات آلاف البشر لأسباب سياسية، ويقول مراقبو حقوق الإنسان إن ثمة نزعة ناشئة لاعتقال المزيد من النساء. فقد اعتقل ما لا يقل عن عشرات النساء ـ كثير منهن من الشابات المؤثرات على مواقع التواصل الاجتماعي ـ ووجهت إليهن تهم "انتهاك قيم العائلة" و"الفحش" إثر نشرهن فيديوهات هزلية.

بوسع جيجي إبراهيم ـ حاملة جواز السفر الأمريكي ـ أن تهرب. ولكنها تقول إنها فتحت ورشة لتصنيع الأحذية. قالت "أعرف الحياة في الولايات المتحدة. ربما أكون هنا مواطنة من الدرجة الثانية لكوني امرأة، لكنني هناك إرهابية من الدرجة الثانية".

• هذه مقتطفات وافية من المقال المنشور كاملا في نيويوركر بتاريخ 7 أكتوبر 2021