ترجمة

ماذا جرى لبولندا؟

02 يناير 2022
02 يناير 2022

قبل زمن غير بعيد كانت بولندا تعد المثال الأنجح للتحول الديمقراطي في وسط أوربا وشرقها، ورائدة الاندماج الأوربي. وكانت تنعم ـ على حد تعبير المفوض الأوربي المخضرم جونتر فيرهويجن ـ بـ"عصر ذهبي جديد".

اليوم، تتقدم بولندا من جديد على بلاد أخرى. لولا أنها هذه المرة في طليعة التفكك الأوربي والانحلال الديمقراطي. فالحكومة التي يقودها حزب القانون والعادلة تعمدت المشاجرات مع الاتحاد الأوربي، واختارت القضاة في المحاكم، وأحدثت تشريعا يهدف إلى تكميم أفواه الإعلام المستقل، وتبنت موقفا متشددا من حقوق النساء.

فما الذي جرى؟ تكمن الإجابة ـ جزئيا على الأقل ـ في الماضي. فبحرمانها من إقامة دولة على مدار قرون وخضوعها لإشراف قوى أجنبية، تمتلك بولندا إحساسا مأزوما ومتوترا بنفسها. وقد حاولت الحكومة الراهنة توجيه هذا القلق ليصبح هجوما على اللاجئين وعلى بروكسل وعلى الليبراليين، من أجل خلق ذهنية التحصن [أي الخوف الناجم عن الإحساس بتهديد]، وقد نجحت في ذلك على الرغم من انتكاسات بين الحين والآخر، من قبيل قرار الرئيس بالاعتراض على قانون إعلامي مثير للجدل.

وبولندا بالطبع ليست البلد الوحيد بأي حال في اتباع مسار السياسات اليمينية. ففي أرجاء وسط أوربا وشرقها، حيث يشهد تاريخ كثير من البلاد احتلالات وحكما أجنبيا، يشيع وجود الحكومات والحركات السياسية ذات النزعات المحلية. بحيث أن المنطقة ـ التي تجد تجاربها مع القومية صدى كبيرا في الغرب كله ـ تمثل حالة اختبار. ومن خلال جهود منسقة بين جماعات المعارضة، لا يزال من الممكن أن تستعاد المنطقة إلى الليبرالية والديمقراطية. لكنكم إن أردتم أن تستشعروا ما قد يكون عليه مستقبل أوربا يمكنكم النظر إلى بولندا.

هناك سوف تجدون شيئا غريبا بعض الشيء. فبرغم أن الحكومة كثيرا ما تتهم ـ عن حق ـ بالقومية، يميل المسؤولون إلى مصطلح آخر أرق يجدونه في القاموس، وهو مصطلح "السيادة". ففي خطاب ألقاه أخيرا رئيس الوزراء ماتيوز موراويكي أمام البرلمان الأوربي كرر المصطلح ثلاث مرات في جملة واحدة إذ قال إن "ما يلزم هو قرار سيادي بشأن قرارات سيادية تتخذها دول عضوة ذات سيادة".

قد لا يعدو الأمر أسلوبا بلاغيا بائسا. لكن التأكيد ليس وليد الصدفة. فالحكومة لا تني تقدم نفسها بوصفها مدافعة عن سيادة بولندا. ويبدو أن الأمر يروق لكثير من الناخبين: فبعد ست سنوات في الحكم، لم يزل الحزب الحاكم يتربع على قمة صناديق الاقتراع. وسر الدعم الذي يحظى به منذ وقت طويل إنما يكمن في أوجاع الماضي.

في عام 1795، محيت بولندا من الخريطة بعد وجود استمر لثمانمئة عام، ووزعت على بروسيا ومملكة هاسبورج والإمبراطورية الروسية. وعلى مدار زهاء قرنين، استهلك حلم استرداد الدولة المستقلة الجهود الثقافية والسياسية المبذولة من النخب البولندية. وشهدت بولندا فترة سياد قصيرة بين الحربين، لكن هذه الفترة انتهت بصدمة أخرى تمثلت في خراب البلد نهائيا في عام 1939. وبعد الحرب اندمجت بولندا في مجال هيمنة الاتحاد السوفييتي لتعاني من احتلال دام لنصف قرن.

بعد الفتح الديمقراطي في عام 1989 استعادت بولندا سيادتها. وبات السؤال يتمثل في كيفية المحافظة عليها وتأمينها. وتجلى لذلك طريقان. تمثل الأول في الالتصاق بالغرب، من خلال الانضمام إلى الاتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلسي. وبدا منطق ذلك الطريق بسيطا: وهو أنه من خلال الانتماء إلى ناد يجري فيه الاتفاق على الحدود ثم لا تنتهك، تصبح سيادة بولندا مضمونة، بمعنى حقها في أرض محددة وفي حدود لدولة.

شرع البلد في الانضمام إلى الغرب، وحقق في ذلك نجاحا كبيرا. ازدهر الاقتصاد، واحتلت بولندا مكانها في منظومة الأمم الأوربية واقتنع أغلب المواطنين بأن الغرب لن يجلب لهم الأمن وحده وإنما سيوفر لهم حياة أفضل. لكن لما حان الوقت الذي اندمج فيه البلد بالكامل، خاب أمل الكثيرين. إذ أدت حرية الحركة عبر تكتل الاتحاد الأوربي إلى هجرة العقول تاركة وراءها جيل كبار السن في البلد في ظل نظام رعاية صحي غير كفء. وبالنسبة للعمال، كان متوسط الأجور متدنيا عما يحظى به أمثالهم الغربيون.

من خلال استثمار إحباطات الناخبين، قام ياروسلاف كاتشينسكي، زعيم حزب القانون والعدالة، بصياغة ماهرة للطريق الثاني لضمان السيادة، إذ تحذو بولندا بموجبه حذو دولة ما بين الحربين المعروفة بالجمهورية الثانية التي استعادت سيادة بولندا في ما بعد الحرب العالمية الأولى. وبدا المقترح جذابا بشدة ففاز الحزب بالأغلبية في انتخابات 2015، لولا أنه تم التغاضي عن جانب أساسي في الجمهورية الثانية وهو الدولة الاستبدادية التي تأسست إثر انقلاب في عام 1926. وصارت الديمقراطية وسيادة القانون أدنى مرتبة من الاستعراض العضلي للسيادة.

على مدار ست سنوات في الحكم، أظهر الحزب نفسه بوصفه الوريث الحق لذلك الإرث. فسيطر على المؤسسات الأساسية ـ في التعليم والإعلام العام والقضاء ـ وأثار غضب بروكسل. وخلال العام الماضي تصاعدت المواجهة: ردا على لوم الاتحاد الأوربي لبولندا بسبب خططها للنيل من استقلال القضاء، شددت الحكومة من خطابها المتعلق بالسيادة. (مع استمرارها في المطالبة بفوائد عضوية الاتحاد من قبيل صناديق التعافي من الوباء).

خلال الأزمة الأخيرة في الحدود بين بولندا وروسيا البيضاء، حيث تدافع آلاف المهاجرين طالبين الدخول، أظهرت الحكومة كيف يمكن أن يكون شكل الانفراد بالتصرف. فرفضت عرض الاتحاد الأوربي بالمساعدة ورفضت السماح بدخول أولئك الذين وصلوا إلى حدودها. ويبدو في الوقت الراهن أن هذا النهج ناجح: فأغلبية الشعب تدعم موقف الحكومة، والأزمة في ما يبدو عززت دعم الحكومة.

ولكن لهذا ثمنا. فالعزلة المتزايدة للبلد ـ التي تعتقد الحكومة أنها علامة على استقلال بولندا ـ تفتح في واقع الأمر الباب لنفوذ روسيا، وهو أمر يعاف المسؤولون الاعتراف به. ويشير الوضع في أوكرانيا إلى ما قد يفضي هذا إليه. فلاجتناب الغزو يطالب الرئيس فلاديمير بوتن ـ ضمن مطالبات كثيرة ـ بأن يحد حلف شمال الأطلسي من نشر قوات في البلاد ما بعد السوفييتية ومنها بولندا. واحتمال الوقوع مرة أخرى تحت الوصاية الروسية قائم وقاتم.

لكن يبدو أن الحكومة في الوقت الراهن تدرك الإحساس المشترك في الغرب كله بأن السيادة قد رجعت بوصفها المبدأ المنظم للفعل السياسي. ففي بريطانيا وأمريكا بالطبع، أدى الصخب المطالب باسترداد المجد الوطني الشاحب إلى البريكست وإلى تولي دونالد ترامب الرئاسة. وفي أوربا، بات كاتشينسكي رئيس وزراء بولندا وفكتور أوربان رئيس وزراء المجر شخصيتين ملهمتين لليمين المتشدد، وباتا قدوتين لإريك زيمور ومارين لو بان في فرنسا وماتيو ساليفيني وجورجيا ميلوني في إيطاليا.

وبرغم كل الاختلافات المحددة بين أولئك الساسة فإنهم يشتركون في مشروع: هو ترسيخ الاستياء الوطني على حساب التماسك القاري. وإذا نجحوا فسوف يكون بوسعهم منطقيا أن ينهوا النموذج الأوربي للديمقراطية الليبرالية مثلما نعرفها. وإذا لم تتمكن بولندا من تسوية سيادتها العصبية وتحويلها إلى تعاون ديمقراطي، فإنها البلد الذي سوف يضرب المثل ويتقدم على هذا الطريق.

• كارولينا فيجورا عالمة اجتماع ومتخصصة في تاريخ الأفكار وعضو مجلس إدارة مؤسسة كولتورا ليبرالنا في واسرو وزميلة أكاديمية روبرت بوش في برلين.

• ياروسواف كويش محلل سياسي ورئيس تحرير مجلة كولتورا ليبرالنا الأسبوعية البولندية وزميل جامعة كامبريدج ويعمل حاليا على كتاب عن تحول بولندا عن الليبرالية.

** نشر المقال في نيويورك تايمز