ترامب 1.0 وترامب 2.0
18 ديسمبر 2025
سوزان بي. غلاسر - ترجمة - بدر بن خميس الظفري
18 ديسمبر 2025
في يناير 2018، استضاف دونالد ترامب مجموعة من المشرّعين في المكتب البيضاوي لمناقشة إمكانية التوصل إلى اتفاق هجرة يحظى بدعم الحزبين. غير أنه، أثناء الحديث عن خطط لمنح وضعٍ قانوني محميّ لمهاجرين من دول إفريقية ودول أخرى مثل السلفادور وهايتي، بدا عليه الضيق. قال حينها: «لماذا نستقبل كل هؤلاء القادمين من دول قذرة؟»، مضيفًا أنه يفضّل أن يدخل الولايات المتحدة مزيد من الأشخاص من دول أوروبية يغلب عليها البيض، مثل النرويج.
هذه التصريحات، التي نُشرت بعد وقت قصير في صحيفة واشنطن بوست، أثارت ضجة واسعة. أنكر ترامب ما ورد في التقرير، وقال اثنان من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الذين حضروا الاجتماع إنهما لا يتذكران سماعه يقول ذلك. وكتب ترامب على منصة «تويتر»: «لم تُستخدم هذه اللغة»، واصفًا الرواية بأنها «مختلقة من الديمقراطيين». وعندما استمرت الأسئلة حول تصريحاته، قال للصحفيين: «لستُ عنصريًا. أنا أقل شخص عنصري قابلتموه في حياتكم».
بعد ما يقرب من ثماني سنوات، وبعد أكثر من ساعة وخمسٍ وعشرين دقيقة من خطاب ألقاه في تجمع انتخابي بولاية بنسلفانيا هذا الأسبوع، اعترف ترامب أخيرًا بأنه استخدم بالفعل تعبير «الدول القذرة». ثم انطلق في استطراد مطوّل عن أن الولايات المتحدة تستقبل عددًا كبيرًا من المهاجرين من الصومال وأماكن أخرى «قذرة، متّسخة، مقزّزة، وموبوءة بالجريمة». لم يكتفِ ترامب بالاعتراف بما كان قد أنكره سابقًا؛ بل، وسط تصفيق الحاضرين، استعاد عبارته القديمة وكأنها ذكرى محببة.
بالنسبة لكثيرين، كانت تلك «لحظة اصطياد» سياسية، فلدينا رئيس يعترف، متأخرًا، بأنه قال واحدة من أكثر عباراته شهرة. كتب السيناتور الديمقراطي ديك دوربين، عن ولاية إيلينوي، الذي كانت روايته عن اجتماع 2018 قد تعرّضت للتشكيك من زملائه الجمهوريين، على وسائل التواصل الاجتماعي: «الحقيقة تظهر في النهاية». لكن آخرين ركزوا بدرجة أقل على انكشاف كذب قائد اعتاد عدم قول الحقيقة، وبدرجة أكبر على تصاعد خطاب الكراهية الذي بات الرئيس يطلقه بانتظام ضد المهاجرين الصوماليين في ولاية مينيسوتا. وفي الواقع، كان الأمر خليطا من الأمريْن معًا، فضلًا عن كونه مثالًا دقيقًا على الفارق بين فترتي حكم ترامب. فترامب لا يزال ترامب، لكن الفارق كبير بين رئيس شعر يومًا بالحاجة إلى إنكار قوله «الدول القذرة»، ورئيس يحتفي اليوم، بعد ثماني سنوات، بأنه قالها.
ترامب 2.0 يتمحور حول هذه القطيعة مع الأعراف الأسلوبية والقواعد والتقاليد التي حكمت مؤسسة الرئاسة في السابق، والتي بات علينا الآن أن ندرك أنها شملت حتى ترامب 1.0. طوال سنوات، اشتكى من أن جميع أسلافه في البيت الأبيض تقريبًا كانوا مخطئين في كل شيء. والمفاجأة في ولايته الثانية ــ إن جاز وصفها بالمفاجأة ــ أن نقد ترامب للرؤساء الأمريكيين الآخرين لم يعد مقتصرًا على جورج بوش الابن، وباراك أوباما، وجو بايدن؛ بل امتد ليشمل ترامب نفسه.
ليس على المستوى الشخصي بالطبع؛ فكل من شاهد دقيقة واحدة من اجتماع لمجلس وزراء ترامب يدرك أن الرئيس، في نظر نفسه، لا يخطئ أبدًا. لكن، وإن كان غير مستعد للاعتراف بأي خطأ من أخطائه، فإنه لا يتردد في رفض سياسات أولئك الذين عملوا معه، حتى عندما تكون تلك السياسات موقعة باسمه العريض وخطه المألوف بالقلم الأسود السميك على الغلاف.
قبل ثماني سنوات من هذا الشهر، نشر البيت الأبيض في عهد ترامب أول استراتيجية للأمن القومي، وهي وثيقة أشادت بالقيمة الدائمة لحلف شمال الأطلسي بوصفه «إحدى أعظم مزايانا مقارنة بمنافسينا»، وأثنت على حلفاء الولايات المتحدة باعتبارهم، على حد تعبير أحد واضعي الاستراتيجية الرئيسيين، مستشار الأمن القومي آنذاك إتش. آر. ماكماستر، «أفضل دفاع في مواجهة تهديدات اليوم». واحتوت أشهر فقراتها إعلان الدخول في عصر جديد من «تنافس القوى الكبرى»، مع التحذير من أن الصين وروسيا تمثلان أخطارًا جسيمة وطويلة الأمد على الولايات المتحدة.
لا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي استُشهد فيها بهذه الوثيقة أمامي من قِبل شخصيات جمهورية من المؤسسة التقليدية، كانت حريصة على إثبات أن ترامب كان، في نهاية المطاف، زعيمًا على طريقة رونالد ريغان في التشدد تجاه روسيا.
إن العقيدة الجديدة للأمن القومي، التي أُعلن عنها في أواخر الأسبوع الماضي، تخلّت عن اللغة التي كانت تحذّر من تهديدات «القوى الكبرى» القادمة من الصين وروسيا، لصالح تصور يقلّص دور الولايات المتحدة بوصفها القوة المهيمنة بلا منازع في نصف الكرة الغربي. وبالقدر الذي يمكن فيه تلمّس نظرية شاملة تحكم هذا التوجه، فإنها رؤية داروينية للعلاقات الدولية، قوامها أن «القوة تصنع الحق». إذ تشدد الوثيقة على أن «النفوذ غير المتكافئ للدول الأكبر والأغنى والأقوى هو حقيقة خالدة في العلاقات الدولية».
وتضم الوثيقة، التي جاءت في ثلاثٍ وثلاثين صفحة أشبه بترنيمة تمجّد قيادة «رئيس السلام»، تضم دعوة إلى وقف توسّع حلف شمال الأطلسي (ناتو)، والتعامل مع روسيا بوصفها نِدًّا لأوروبا من دون أي إشارة إلى مسؤوليتها عن شنّ حرب عدوانية على أوكرانيا، كما تروّج عمليًا لفكرة تغيير الأنظمة ــ لكن هذه المرة لدى حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين. وبحسب النص الوارد في الاستراتيجية نفسها: «تعزيز مقاومة المسار الأوروبي الراهن داخل الدول الأوروبية»). وليس مستغربًا أن تحظى الخطة بترحيب في الكرملين، حيث أشاد المتحدث باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ديمتري بيسكوف، بما وصفه «التعديلات» على الاستراتيجية الأميركية، معتبرًا أنها «تتوافق إلى حدّ كبير مع رؤيتنا».
ومهما يكن حجم الدور الشخصي الذي قام به ترامب في صياغة هذه الوثائق، فلا شك في أن نسخة عام 2025 تبدو أقرب كثيرًا إلى شخصيته من نسخة 2017. ففي ذلك الوقت، كانت آراؤه الحقيقية عن العالم ــ وهي قطيعة جذرية مع عقود من السياسة الخارجية الجمهورية ــ لا تزال، على غرار تعليقه عن «الدول القذرة»، مخصّصة للاستهلاك الخاص. أما اليوم، فهو يعلنها بصوت عالٍ ومن دون مواربة.
النقطة الأهم هنا أن الولاية الثانية لترامب ــ التي وصفتُها قبل أشهر بـ«رئاسة الإعادة» ــ تمثل ممارسة صريحة لتحقيق رغبات الرئيس. هذه المرة، لن يسمح لمحامين متشددين، ولا حتى لسجله السابق، بأن يقفوا عائقًا في طريقه. انظر إلى القائمة الطويلة من السياسات المتطرفة التي تحدّث عنها في ولايته الأولى ولم يُقدم عليها إلا الآن، وتتمثل في إنهاء الضمان الدستوري لمنح الجنسية بالولادة، وفرض رسوم جمركية شاملة على شركاء الولايات المتحدة التجاريين عبر إعلان «حالة طوارئ» وطنية، وإرسال قوات عسكرية إلى مدن يديرها الديمقراطيون لقمع احتجاجات سياسية داخلية.
ومن الجدير بالذكر أن السياسات الثلاث جميعها موضع طعون قضائية أمام المحاكم الفيدرالية، وهو سبب رئيسي جعل مستشاري ترامب في ولايته الأولى يحذّرونه من الإقدام عليها. لكنه لم يتخلَّ عن السياسات؛ بل تخلّى عن المستشارين. ترامب اليوم، وقد تحرّر من القيود وازداد جرأة، تعلّم من سنوات الخبرة كيف يجعل آلة واشنطن تمنحه ما يريد، سواء كان ذلك قانونيًا أم لا. لقد أصبح، أخيرًا، ذلك «الڤيلوسيرابتور» في فيلم حديقة الديناصورات الذي يتعلّم كيف يفتح الباب ــ في إشارة إلى شخصية خطِرة كانت مُقيَّدة في البداية، ثم تعلّمت كيف تتجاوز القيود وتستغل النظام نفسه. وهي الصورة التي شبّه بها أحد مسؤولي الأمن القومي في ولايته الأولى حاله لي ذات مرة.
بعض الفروق بين ترامب 1.0 وترامب 2.0، كما بدا في التجمّع الانتخابي الأخير، تتصل بأسلوب العرض. فرغم أنه كان دائمًا فظًّا ومرتجِلًا، ومتعمدًا إحداث صدمة والتسلية في ظهوره العلني، فإن لسانه بات أكثر انفلاتًا مع تقدّم العمر، ومع الفقاعة المليئة بالمصفقين التي يعيش داخلها الآن. وبعد أن تخلّى كليًا عن طقوس التصرّف «بهيئة رئاسية»، صار ترامب يتحدث علنًا بالطريقة نفسها التي يتحدث بها في الجلسات الخاصة، يلقي شتائم، ويستعمل لغة استطراد، ولديه نزعة عنصرية.
لم يكن الأمر مقتصرًا على هجومه على المهاجرين الصوماليين، ولا على الطول المفرط لخطابه (سبعٌ وتسعون دقيقة، مقارنة بمتوسط خمسٍ وأربعين دقيقة في تجمعاته عام 2016)، ولا حتى على الاستطراد المحرج عن «ذلك الوجه الجميل وتلك الشفاه التي لا تتوقف، كأنها رشاش صغير»، في وصفه لمتحدثته الصحفية الشابة. أما الشتائم ــ فمن أين نبدأ؟ إنها في كل مكان. فهل يعود ذلك إلى أنه بات أكبر سنًا ولم يعد مقيّدًا بكوابحه القديمة؟ أم لأنه غاضب فعلًا من تراجع أرقام استطلاعات الرأي؟
إن كان الأمر كذلك، فعلينا أن نتوقع المزيد من الألفاظ النابية، لأن ترامب، وقد انفلت من كل قيد، أصبح ــ وفق كثير من المقاييس ــ أقل شعبية من أي وقت مضى. ففي ولايته الأولى، كان رئيسًا مستقطِبًا للرأي العام وغير محبوب تاريخيًا، لكنه كان يستند إلى اقتصاد قوي ــ حتى لو لم يكن «أعظم اقتصاد في تاريخ العالم» كما كان يزعم. أما اليوم، ومع استمرار التضخم، ومخاوف ركود وشيك، وقلق عالمي من ميله إلى فرض رسوم جمركية مدمّرة للأسواق، فقد تراجعت شعبية سياساته الاقتصادية إلى ما دون شعبيته الشخصية نفسها.
فقد أظهر استطلاع جديد أجرته وكالة أسوشيتد برس بالتعاون مع المركز الوطني لأبحاث الرأي العام التابع لجامعة شيكاغو، ونُشر قريبا، أسوأ أرقامه هذا العام، وأظهر أنّ 36 في المائة فقط يوافقون على أدائه الوظيفي، و31 في المائة يؤيدون سياساته الاقتصادية ــ وهي أدنى نسبة له في أي من ولايتيه. وفي استطلاع مماثل أجرته مؤسسة غالوب، تبيّن أن 60 في المائة من الأمريكيين باتوا يرفضون أداءه في ولايته الثانية. ويبدو أن للناخبين، بدورهم، «ألفاظهم المختارة» الخاصة للتعبير عن رأيهم في ترامب.
