سريكو لاتال
سريكو لاتال
ترجمة

البوسنة على شفا التفكك

22 نوفمبر 2021
22 نوفمبر 2021

سريكو لاتال

ترجمة: أحمد شافعي

طاغية صربي، استغل منذ سنين المشاعر العرقية القومية لامتلاك المزيد من السلطة، وهو الآن يتعهد علنا بتفكيك بلده، مهددا بإطلاق صراع هادر. والغرب المنصرف إلى مشاكله الخاصة لا يكاد ينتبه.

لا، لست أتكلم عن يوغسلافيا سنة 1991. بل عن البوسنىة والهرسك اليوم. أتكلم عن البلد الذي توصل إلى نظامه الدستوري المعقد عبر مفاوضات شاقة في مواجهة حرب دامية واستقر من خلال اتفاقية دايتن. أتكلم عن البلد الذي يقف الآن على شفا الانهيار.

في القلب من هذه الأزمة ميلوراد دوديك، الزعيم الصربي البوسني والانفصالي العتيد. فقد أعلن في أكتوبر عن خطط لسحب جمهورية صربيا ذات الأغلبية الصربية من مؤسسات الدولة الكبرى. وفي خطوة ترقى عمليا إلى الانفصال، يعتزم إقامة مكتب ضريبي منفصل، وجيش منفصل، وقوات أمن منفصلة. وهو ما يمثل تطورا مريعا بالنسبة إلى منطقة حديثة العهد بالعنف والصراع العرقيين.

إن انسحاب الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي المطرد من المنطقة هو الذي يكمن وراء تحركات السيد دوديك الناجمة عن خمسة عشر عاما من التحضير. ففي غيابهما، أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، تقدمت أذرع نفوذ أجنبية متنافسة ـ أهمها ذراع النفوذ الروسي ـ لتملأ الفراغ، مشجعة القيادات الاستبدادية، ومثيرة القلاقل في المنطقة. ولاجتناب تفكيك البوسنة، الذي قد يؤدي إلى حرب جديدة وكارثة عامة، لا بد أن يغير الغرب المسار فورا إلى عكسه ويشرع في إصلاح ما لحق من ضرر.

في تسعينيات القرن الماضي، تباطأ الغرب في اتخاذ رد فعل على تفكك يوغسلافيا السابقة. وبعد إراقة دماء كثيرة، قام أخيرا بشن ضربات جوية على القوات الصربية في البوسنة سنة 1995 وفي صربيا وكوسوفو سنة 1999 ليفرض الاستقرار على المنطقة. وفي السنين التالية، أنفقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي مليارات الدولارات للمساعدة في إعمار المنطقة. وبرغم الانتقادات الكثيرة المبررة بسبب التركيز على حلول عشوائية قريبة الأجل، فإن جهودهما كانت محورية في ضمان أمن البلقان واستقراره.

ولكن اهتمامهما تبدد. فانسحبت الولايات المتحدة ـ وقد باتت أكثر تركيزا على عملياتها في أفغانستان والعراق ـ من الاشتباك المباشر بحلول عام 2010، وسلمت المسؤولية للاتحاد الأوربي الذي كان يفترض أن يضمن استقرار المنطقة على المدى البعيد بقبوله بلادها ضمن كتلته. ولكن الاتحاد الأوربي بحلول عام 2019 كان يكافح مشكلاته وانقساماته الخاصة فبات واضحا أن العرض القديم أزيح عمليا عن المائدة.

ولما سلب من قادة البلقان حلمهم الأوربي وامتنع عليهم سوق الكتلة المشترك، انقلبوا إلى القومية والشعبوية اللتين وسمتا الماضي. وسقطت في الطريق سيادة القانون وحقوق الإنسان وغيرهما من مبادئ الديمقراطية الأساسية. فتفاقمت الانقسامات السياسية العرقية في البلاد متعددة العرقيات ذات المشاريع الوطنية غير المكتملة مثل البوسنة والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية وكوسوفو.

ومع ذلك فإن المسؤولية الأساسية تقع على البلاد نفسها، وبخاصة الممثلين السياسيين والإعلام التابع لهم ممن أسسوا شعبيتهم على انتشار العداوة تجاه جماعات عرقية أخرى. ففي البوسنة والهرسك، تصدرت القومية العرقية المشهد. وليس السيد دوديك هو الوحيد المنفرد بالراديكالية، فالبشناق ـ [أي أهل البوسنة المسلمين] وهم الجماعة العرقية الكبرى ـ تحركوا طلبا لدولة موحدة، وكروات البوسنة يطالبون باستقلال ذاتي للمنطقة الكرواتية.

والمهم أن تنازل الغرب لم يسمح فقط بتراجع الديمقراطية بل فتح المنطقة أيضا لقوى خارجية أخرى. إذ أبدت روسيا اهتماما واضحا، وأسست نفوذا سياسيا قويا في جميع الأجزاء المأهولة بالصرب في المنطقة، في حين قامت تركيا وإيران ودول الخليج بالمثل في المناطق المأهولة بالمسلمين. وأصبحت الصين ـ باستغلال برجماتيتها السياسية ومواردها الاقتصادية الوفيرة ـ ذات حضور كبير في عموم المنطقة. والأدهى من ذلك أن كرواتيا وبخاصة صربيا بدأتا التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد المجاورة مضيفتين توترات إقليمية.

والتصعيد الأخير في البوسنة نموذج على هذا. فالسيد دوديك ـ الذي كان ذات يوم ليبراليا مدعوما من الولايات المتحدة وكان من أسباب تحوله إلى القومية أنه أحبط من حنث الغرب بوعوده ـ خطا خطوته الانفصالية بعدما تلقى ضوءا أخضر من روسيا. ومن جانبهم، لجأ البشناق المسلمون ـ وقد شعروا بتخلي قوى الغرب عنهم ـ إلى طلب العون من تركيا، في حين يعتمد كروات البوسنة تمام الاعتماد على كرواتيا عضو الاتحاد الأوربي.

وهذا، بأرق العبارات، أمر شديد الخطورة. فالوضع في البوسنة ـ بنزاعاتها السياسية العرقية المتعمقة وسردياتها المتصارعة ـ يبدو أشبه بالوضع في ما قبل اندلاع الصراع في عام 1992. ولو مضى السيد دوديك في مخططه، فسوف يضرب مثالا لخرق واضح لاتفاقية السلام في البلد. وردا على ذلك قد تتطلع قيادة كروات البوسنة إلى استعادة منطقتهم ذات الاستقلال الذاتي في زمن الحرب في هرسك البوسنة، والبشناق المسلمون سوف يدافعون عن البوسنة بكل السبل حتى لو حملوا السلاح. وفي ظل توفر المدد العسكري من الداعمين الدوليين يسهل تماما تخيل نشوب الحرب.

يبدو أن مؤسسات الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي فقدت ذكرياتها الخاصة بالثمن الذي دفعته ـ من حياة الجنود ومليارات الدولارات التي تكبدها دافعو الضرائب ـ لإنهاء حروب البلقان الدامية في التسعينيات. ولكن بالإمكان اجتناب الأسوأ إذا ما عادا مرة أخرى إلى الاشتباك الكامل وتكريس الموارد وكبار المسؤولين لهذه المهمة.

عليهما أن يعيدا إحياء استراتيجية «العصا والجزرة» ـ بمزيج من العقوبات والتنازلات والموارد المالية ـ التي نجحا في اتباعها في البلقان في الماضي. وبتلك الطريقة، يستطيع مسؤولو الغرب أن يجمعوا الزعامات المحلية والإقليمية الأساسية حول مائدة تفاوض تبدَّد فيها الاختلافات، وتُبحث التأثيرات الضارة للبلاد الأخرى على العملية. ولا بد بالطبع أن يكون قادة البوسنة والهرسك على قدر المسؤولية والتحدي. ولكن ذلك قد يحدث فور أن يسترد الغرب المنظور الأوربي بعيد المدى للمنطقة.

لقد اشتعل فتيل برميل البارود في منطقة البلقان. ولا بد من إطفائه قبل أن نرى المنطقة، وربما أوربا بأسرها، وقد التهمتها النيران.

• كاتب المقال صحفي قام بتغطية أخبار البوسنة والهرسك لوكالة أسوشييتد بريس خلال حرب 1992-1995، ومحلل سابق لمجموعة الأزمات الدولية، ومحرر شبكة البلقان للصحافة الاستقصائية

** نشر المقال في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية